بعد الفشل الإسرائيلي الذريع.. من سيشعل فتيل الحرب بالمنطقة ستكون على رأسه
وما يسطرون – توفيق سلاّم – المساء برس|
العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني يدخل شهره الرابع، في الوقت الذي ينتظر فيه النظام الرسمي العربي سردية الرواية الإسرائيلية في القضاء على حماس، وتفكيك هياكلها، بحيث لايراد لها أن تبقى كجبهة مقاومة وطنية ضد الكيان الصهيوني، باعتبارها حاملة لمشروع التحرر والاستقلال الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية العادلة على ترابه الوطني الفلسطيني.
منعطف مفصلي
تشير معطيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة بأن التطورات وصلت إلى منعطف مفصلي حاد، في ظل عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم وتحقيق الأهداف التي أُعلن عنها، وهذا ما أدى إلى الخلافات بين الوزراء في الحكومة الإسرائيلية وبين مجلس الحرب المصغر وقيادات أركان الجيش التي أظهرت عجزًا ميدانيًا في الوصول إلى تحقيق الأهداف المعلنة. وشيئًا فشيئًا تتجلى الحقائق، ويتكشّف للعالم بأن إسرائيل تجري خلف الوهم، فلا يمكنها تفكيك حركة حماس، نظرًا إلى مرونة هياكلها وانخراطها ضمن حواضنها الاجتماعية، ولا إعادة الأسرى، بالأدوات والوسائل التي استخدمتها وفشلت، وموضوع الأسرى مرتبط بوقف الحرب وادخال المساعدات الغذائية إلى غزة وإلى كافة المدن والبلدات المحاصرة.. هذا المأزق أمام إسرائيل جعلها تتخبط، وتبحث عن انتصارات ميدانية، بينما ينظر لها العالم بالدولة المجرمة والفاشلة، وكُشفت على الملأ بأنها كيان احتلال تقودها نخبة يمينية صهيونية متطرفة فاسدة، تقودها إلى مواجهات كبرى إقليميًا ما يجعل المخارج معقّدة إلى أبعد الحدود، ويجعل خيارات فريق إدارة الحرب الإسرائيلي أمام أوضاع صعبة للغاية، ولا يمكن أن تحرز إسرائيل أيًا من أهدافها، حتى مع بقاء هذه الحرب مدة أطول، وهذا ما يجب أن تستوعبه النخب العربية أولاً، التي تنتظر هزيمة المقاومة الفلسطينية بفارغ الصبر.
إسرائيل كيان فاشل
إسرائيل دولة مغامرة وفاشلة، وشيّدت واقعًا يستحيل الخروج منه إلا بهزيمة كبرى، وقد كان لتركيبة الحكومة الإسرائيلية الحالية دور كبير في الوصول إلى هذا المأزق، انطلاقا من حقيقة أنها جمعت كل أتباع التطرّف اليميني العنصري في إسرائيل تحركهم الأساطير، ودافع القوة للتغطية على هزائمهم يوم 7 أكتوبر الماضي، وهم لا يتقنون الأدب السياسي في محاكاة المعطيات على الأرض، بل يريدون حتى نصرًا مزيفًا في إدارة التفاوض. إذ لا يمكن لحكومة نتنياهو إنجاز الأهداف التي رفعتها، ليس فقط ليقول نتنياهو إنه حقق ما وعد به، ولكن ذلك سيكون في التقييم الإسرائيلي عنصرًا مهمًا في قراءة البيئة الاستراتيجية، بعد إزاحة فاعل مؤثر من حسابات الصراع الإسرائيلية، وانعكاس هذا الأمر على وزن إسرائيل في الواقع الإقليمي وإظهارها بالدولة الفاسدة، وعسكريتها الهشة وضعف قدراتها وخبراتها الحربية الميدانية أمام فصائل المقاومة الوطنية التي مرمطت بها وأسقطت الجيش الذي لا يقهر، فقهرته بإمكاناتها البسيطة واسلحتها المتواضعة، أسقطت ما كان يخاف منه العرب الذين صدقوا الإعلام الصهيوني بأن جيشهم لا يقهر، واتضح أنه أضعف من خيوط العنكبوت رغم الامكانات التسليحية المهولة والدعم الأمريكي والأوروبي.
وعند هذا المعطى، يجب عدم الركون للتقديرات بأن إسرائيل المنهكة والمستنزفة في غزّة قد تذهب باتجاه توسيع رقعة الحرب في المنطقة.. فلا قبل لها بمواجهة محاور المقاومة (حزب الله، وصنعاء، والعراق، وسوريا)، في البحر الأحمر تتكبد خسائر اقتصادية ومخاطر أمنية، ولا جدوى لأي تحالف بحري لانقاذها، وستنسحب كل القطع البحرية من البحر الأحمر. فاليمن لن تترك حلفاء إسرائيل يفرضون قرصنتهم على البحر الأحمر وحماية أمن إسرائيل دون توجيه ضربات قاتلة لسفنهم وأساطيلهم، إنها معركة بحرية فاصلة، وقد وجهت صنعاء تحذيراتها بذلك، والكرة بيد الأمريكان، فأما أن يرحلوا، وأما أن يتحول البحر الأحمر إلى حرائق لا تنطفي.. إسرائيل منهكة تمامًا، وإغراق المنطقة بأي تصعيد سيكون على حساب المصالح الأمريكية، ومحاور المقاومة جاهزة لذلك، ومن سيشعل عود الثقاب ستكون على رأسه والشعوب العربية ستكون إلى جانب محاور المقاومة، فضلاً أن الشارع العربي مهيأ للتفجر ضد الحكومات الصامتة، ولن تجدي القبضة الأمنية مفاعيلها نفعًا، ولن تستطيع لجم الانتفاضات الشعبية والهيجان الشعبي، فقد تقتحم الحدود وتتجاوز الاسوار والموانع بسيول بشرية، ولا أحد يدري إلى ما ستؤول إليه الأمور.
ثمّة عنصر آخر، سيكون دافعًا لتصرّفات إسرائيل المتهورة في المرحلة القادمة، يتعلق بالحوامل الاجتماعية لمنظومة الحكم الإسرائيلية الحالية.
فالمتطرفون في إسرائيل هم أصحاب الكفة الأثقل في الميزان السياسي، وهم لم يصلوا إلى هذه المرحلة، إلا بعد أن استطاعوا هزيمة التيارات العلمانية واليسارية ودفعها إلى الانكفاء، وهؤلاء لن يقبلوا بهزيمة مدوية تسمح بعودة تلك التيارات، وتراجع فعاليّتهم وتأثيرهم في صنع السياسة وتشكيل توجهات إسرائيل في المرحلة المقبلة، وهنا تكمن المشكلة، في هؤلاء الذين لا يريدون أن يعترفوا أنهم فشلوا، وما زالوا يكابرون في تصريحاتهم بأن “الحرب لن تتوقف إلا بعد تحقيق أهدافها”.. مع أن إسرائيل تنهار إلى مستوى الفضيحة السياسية والعسكرية والأخلاقية تحت قيادة هذه الزمرة المتطرفة الذين أصبح لهم ثقلاً موازيًا في أغلب قطاعات الحياة الإسرائيلية من التعليم والثقافة والاقتصاد وغيرها، لكنهم -في الوقت الراهن- هم من يغرقون إسرائيل في مستنقع الأزمات وقد تقود الأمور إلى حالة من الفوضى الداخلية مع ظواهر الانقسام بين النخب الحاكمة.
بين جنوب إفريقيا والعرب
ما يحدث من مجازر في قطاع غزة لا تعني القيادات العربية بشيء، فهؤلاء الساسة تركوا إسرائيل تتعربد، وتستعرض قوتها فوق أرواح أبناء غزة، ترتكب جرائم حرب إبادة بشكل متعمد في تطهير عرقي عنصري بشع ضد الإنسانية.. فكل تلك الجرائم والدمار والخراب والحصار والتهجير، لا تعني النخب العربية الحاكمة، التزمت الصمت تحت الضغوط الأمريكية، ولم ترقَ المقاربات العربية من المجازر الصهيونية في غزّة إلى مستوى مقاربات دول أخرى في العالم البعيد، مثل جنوب إفريقيا وبوليفيا واسكتلندا، على سبيل المثال، والتي تبدو في هذه اللحظة الدامية، أكثر قربى لفلسطين من الذين يسمّون أنفسهم أشقاء وإخوة في الدم والمصير.
تبنت جنوب إفريقيا مواقف شجاعة وانسانية، فقطعت العلاقات مع إسرائيل وطردت سفيرها، وهي اليوم تتبنى ملف جرائم الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، على إرتكابها جرائم الإبادة الجماعية. وأنّه بالإمكان صدور قرار بإدانة الجرائم الصهيونية في غزّة، ومعاقبة مرتكبيها، إذا ما انضمت دول أخرى رافضة للعدوان للدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا، لاسيما وأن هناك دولًا عربية موقعة على الاتفاقية الدولية. والدول العربية التي صدقت على الاتفاقية هي تسع دول: مصر والسعودية والعراق والأردن والكويت وليبيا والمغرب وسورية وتونس، كل منها طرف في هذه الاتفاقية، وهذه الدول شقيقة لفلسطين، كما يردد مجازًا. وبالتالي، فإن وقوفها مكتوفة الأيدي أمام الجريمة الصهيونية الموثقة بكل الأدلة والوقائع أمر لا يقبله عقل ولا منطق. فيما تخوض جنوب إفريقيا وحدها معركة العدالة الدولية، هذه المفارقات لا يمكن استيعابها، وهي محل تساؤل الشارع العربي والإسلامي، وحتى العالمي أن لا يهتز للعرب ريش. فإما أن هذه الدول لا ترى فلسطين دولة عربية شقيقة، أو أنها هي نفسها باتت تتنكّر لعروبتها، وتنكفئ على ذاتها، مكتفية بهوية قُطْرية يغذيها خطاب اقصائي استعلائي تروجه وتلوكه وسائل إعلام يبدو بعضها في هذه المعركة منحازًا ضد المقاومة الفلسطينية وضد مصلحة الشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة.
ضمن الدول العربية التسع الموقعة على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ثلاث دول لديها علاقات تطبيع كاملة مع الكيان الصهيوني هي: “مصر والأردن والمغرب”، والدولة المتخفية” السعودية” تحت الطاولة كانت بصدد اتخاذ الخطوة الأخيرة على طريق التطبيع مع إسرائيل.. حتى هذه “الدول الثلاث” لم تجروء على استخدام ورقة إنهاء التطبيع للضغط على إسرائيل ولم ترفع الدول العربية المطبعة صوتًا. أما السعودية التي كانت متوثبة للتطبيع، لم يمهلها طوفان الأقصى الفرصة الكاملة، فقد جاء عاصفًا ليقلب الطاولة ويبعثر الأوراق على الجميع، وتجمّيد هذا المسار، وهو الأمر الذي كان مزعجًا للسعودية ومصر والإمارات والبحرين. ولا يمكن تصوّر أن واحدة من الدول الخمس البعيدة عن مسار التطبيع لا تستطيع أن تدعم جنوب إفريقيا في نضالها النبيل لوقف المذابح بحق الشعب الفلسطيني، والانتصار لقضيته العادلة في السعي إلى التحرر من الاحتلال وإجرامه، كما لا يمكن تخيل أن بقية الدول العربية المطبعة، أو التي على قائمة انتظار التطبيع، تبقى مكتفية بالتأمل والوساطة، وأحيانًا الهروب إلى الأمام.
تبدو النخب العربية، في هذا اللحظة، عُراة من أي حجج ومبررات تجعلهم خلف الستار يشاهدون من بعيد نزيف الدم الفلسطيني، أو قد يبادر أحدهم، أو منهم كوسطاء بين الضحية والقاتل الذي لا يزالون يستقبلون ممثليه في عواصمهم، ويذهبون إليه في الأرض المحتلة للتفاوض على المذبحة.
كيان لا يشبه المنطقة
تصريحات، وزير الدفاع الصهيوني قبل بضعة أيام كان واضحًا وقاطعًا في الاعتراف بأن هذا الكيان، لا يشبه هذه المنطقة، ولا المنطقة تشبهه، وأنه استعمار دخيل يفرض وجوده على هذه الأرض بالقوة العسكرية والإرهاب، حين قال “إذا لم نحقق انتصارًا في حرب غزة، فلن نتمكن من العيش في الشرق الأوسط”.
وهذا يعني يقينًا إسرائيليًّا عميقًا، بأنّهم ليسوا وجودًا طبيعيًّا في هذه المنطقة، وأن بقاءهم هنا مرهون باعتناق العدوان والحروب التوسعية عقيدة ثابتة لإخضاع حكومات المنطقة بتفوقهم العسكري، ذلك الوهم الذي أسقطه بضعه آلاف من المقاومين الذين يخوضون أقدس معركة نيابة عن الأمة كلها، بينما أنظمة عربية متواطئة تشاهد ذلك، بل وتتمنى بعضها اجتثاث حماس، وكأن ما يحدث متفق عليه مسبقًا.
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” لم يصدر عنه شخصيًا أي نفي، للتقارير الصحافية الإسرائيلية التي ذكرت أنه قام بزيارة إلى دولة الاحتلال وعقد اجتماعات غير معلنة مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والوزير في مجلس الحرب “بيني غانتس”، بُحثت خلالها إمكانية اعتماده كوسيط مع دول غربية وأخرى عربية لإقناعها باستقبال لاجئين فلسطينيين من سكان قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.
وإذا كان تعبير “الهجرة الطوعية” هو التسمية المعلنة التي تعتمدها دولة الاحتلال ضمن إطار ما يتردد من مشاريع لتوسيط بلير، فإن الأهداف الفعلية الواضحة تدور حول ما يشهده القطاع لتوه من عمليات طرد جماعية ضمن سياسة منهجية تستهدف التطهير العرقي وإفراغ المخيمات والبلدات والمدن من ساكنيها، تزامناً مع قصف جوي ومدفعي وصاروخي يتعمد التدمير الشامل للعمران وتخريب البنية التحتية بالكامل.
مقاربة بلير للمسألة الفلسطينية لم تنطلق أبداً من حقائق الاحتلال والاستيطان والعنصرية، بل من زعم مسبق بأن الجانب الفلسطيني متعنت يرفض التنازل، ويعجز عن الاقتداء بنموذج التسوية السياسية في إيرلندا الشمالية. وإلى بلير تُنسب الجملة الشهيرة: “ضمن اعتبارات عديدة لا يتوجب على الشرق الأوسط أن ينظر إلى إسرائيل كعدو، بل كنموذج يُحتذى”.
فالأدوار التي لعبتها مؤسسة الاستشارات التي يديرها “معهد توني بلير للتغيير العالمي” لصالح ملفات عديدة خدمت وتخدم دولة الاحتلال، وتحديداً من خلال التواطؤ مع السلطات الإسرائيلية عبر مكتبها المفتوح دائماً في القدس المحتلة. ولن يكون طارئاً على هذه المؤسسة أن تباشر دور شراكة في حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. وبذلك فإن لقاءات بلير السرية مع أمثال “نتنياهو” و”غانتس” لم تكن أقل من اجتماعات “بزنس” تتوخى عقد صفقات التهجير القسري والتطهير العرقي في قطاع غزة، والآن وقد عاد إلى الساحة رئيس المؤسسة نفسه، كوسيط أقرب إلى شخصيته كتاجر حروب.
مقال منشور للكاتب في صحيفة “عرب جورنال”