أرادوا الخروج فأعدّوا له: ساحل تهامة طريقًا لـ”الطوفان”

موسى السادة – وما يسطرون|

من الحركة إلى الدولة

قد يبان للعيان أن عمليات القوات المسلحة اليمنية انبثقت في لحظة من العدم، خصوصًا أن الحديث هو عن جهة سياسية كانت محاصرة عبر سردية إعلامية ضخمة، لم تبدأ فقط من العدوان السعودي-الأمريكي على اليمن منذ قرابة التسع سنوات. إنّ أبرز مظاهر الغرور والتكبّر، وكذلك الاستشراق، لكلٍّ من النظام الرسمي العربي وإعلام الدول الغربية، هو نفي حتى الحق في التسمية. فأنت كطرف سياسي متمرّد على البنية السياسية الرسمية العربية والدولية، لا يحق لك أن تسمي نفسك، فأنت “الحوثيون”، ومهما سميت نفسك فهذا مرفوض، فنحن من نعلّم الأسماء كلها، واستخدام لفظ “أنصار الله” هو اعتراف وتسليم، بأنك مارست سيادة واستقلال التحلّي بإسم. ولعل هذا هو الشكل التاريخي لعملية تسمية العبيد ونفي حقهم في اختيار أسمائهم، وعليه سمّى الشهيد مالكوم إكس نفسه. ولذلك، وبكل صراحة، فإنّ أي طرف يشير إلى حركة “أنصار الله” بـ”الحوثيين” هو شكل من أشكال الانحياز للنظام الرسمي العربي، وما تبني قناة “الجزيرة” لتسمية “أنصار الله-الحوثيين” سوى أحد انعكاسات للحبال التي تلعب بينها السياسة القطرية في المنطقة العربية.
فنحن، بدون مبالغة وبكل موضوعية وتاريخية، نتكلّم عن أكبر حركة اجتماعية وسياسية في تاريخ الجزيرة العربية، بل وفي تاريخ الوطن العربي. والإصرار على وضع مسافة بينك وبينها بالمصطلح هو انعكاس على انحياز ضد تغيير البنية السياسية ونمط الدولة العربية. هذه الحركة السياسية نجحت لأول مرة في التاريخ العربي، وباستثناء الانقلابات العسكرية، في السيطرة على مؤسسات الدولة، وأيضًا في التصرف باعتبارات دولتية. بمعنى، أن المراقب لخطاب المؤسسات الرسمية اليمنية، ومنها القوات المسلحة، سيجدها لا تعمل على التعبئة الحزبية أو تبني شعارات ذات خصوصية حركية، بل ولأنها دولة، فهي تحاول وتنجح ببراعة في مخاطبة أكبر شريحة ممكنة من اليمنيين والعرب. وذلك عبر استمالة خطاب العروبة والأمة والتراث الإسلامي الجامع، وأوله القرآن الحكيم والعلاقة مع فكرة المطلق “الله” سبحانه وتعالى. وهذا ما تمم الريادية العسكرية اليمنية في المشاركة في ملحمة “طوفان الأقصى”، حيث أن الخطاب الواسع أسس لأن يكون لعمليات القوات المسلحة اليمنية حاضنة جماهيرية تشمل المريدين والخصوم والمتأرجحين. ولأن العنوان الواسع هو القضية الفلسطينية، فهي بحد ذاتها تقوم بدورها التاريخ في الوجدان والوعي السياسي العربي باستمالة كل قلوب الجماهير العربية. ففي اليمن ترى المتقاتلين وآباء وأهالي من سقطوا في مواجهات داخلية ضد حكومة صنعاء، يحيون العميد يحيى سريع، فهذه “إسرائيل” في نهاية المطاف كما يعبّرون، بل وترى نشطاء على خلاف معقد وبمستويات مختلفة وسبق أن اعتقلتهم سلطات صنعاء، يساهمون اليوم وبقوة كصف واحد في دعم المجهود الحربي إعلاميًا وجماهيريًا.

ولكي تفهم السياسة اليمنية، وأقلّه في الشطر الشمالي، وبما يمتد أبعد بطبيعة الحال، فإن قدرة أي طرف سياسي على الحشد في ميدان السبعين هي عملية استعراض عضلات سياسية. وهو ما لم يحدث منذ سنوات، أن تم حشد الجمهور تحت عنوان سياسي، باستثناء المولد النبوي الشريف، إلا أن مسيرة “مع غزة حتى النصر” في الخامس عشر من كانون الأول-ديسمبر الجاري كانت أكبر رسالة سياسية على وقوف اليمنيين بشكل واحد، وتعفف حركة “أنصار الله” قدر الإمكان عن أي رموز حزبية، والتماس الرموز الوطنية الجامعة، تحت سقف المساهمة في ملحمة “طوفان الأقصى”. نحن هنا، ولأول مرة منذ عقود، وعلى المستوى العربي، نرى العروبة كممارسة سياسية، لا كخطاب فقط، ونرى الحدود الوطنية ذهنية وجغرافية نحيلة بشكل غير مسبوق. فما يقوم به اليمن، كل اليمن، والشعب اليمني كله، من المهرة إلى الحديدة ومن عدن إلى صنعاء، هو صناعة نموذج واقعي أمامنا يشكّل القدوة لأي حركة سياسية وجماهيرية عربية، للثورة على النظام الرسمي العربي، وكسر هذا الحاجز والمانع المتواطئ والحائل دون مشاركة الفلسطينيين حربهم وتحويلها لحربنا نحن جميعًا كما يجب أن يكون.

معركة الدريهمي

تكمن ميزة النموذج اليمني في أن الخطاب لم يسبق الفعل، وحتى لم يتبعه، بل إن الخطاب السياسي المتعلق بفلسطين كان رديف الفعل السياسي والعسكري طوال سنوات الحرب ضد العدوان السعودي-الأمريكي. تعدّ معركة وحصار الدريهمي، من عام 2018 وحتى عام 2020، أي قرابة الـ790 يومًا، إحدى المحطات الفاصلة في معركة الساحل الغربي، وهي سلسلة من المعارك هدفها سيطرة حلفاء المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على ميناء الحديدة، وإنهاء سيطرة حكومة صنعاء عليه، كونه الشريان شبه الوحيد والرئيسي للغذاء والموارد لمناطقها. ضمن هذا الإطار، كان العنوان الرئيسي للمعركة والسبب العقلاني هو حماية هذا الشريان وعدم انطباق الحصار على ملايين اليمنيين. إلا أن المسألة لم تكن محض ذلك بالنسبة للمنظور والعقيدة القتالية للمقاتلين على الساحل التهامي، إذ إن المقابلات المسجلة للمقاتلين كانت تربط بين أهمية المعركة ودور اليمن المستقبلي في المعركة الأساسية ضد العدو الإسرائيلي، خصوصًا العمليات البحرية على مضيق باب المندب. ومن جهة أخرى أيضًا، كان منطق الإعلام الإماراتي-السعودي للمعركة حينها حماية المضيق والممرات المائية الدولية في إطار عملية كبرى سميت “السهم الذهبي”. وفي حين كان فعل وقول المقاتلين اليمنيين من يشير صراحة إلى فلسطين ويتوشحون الكوفيات بشكل كان يثير تندر وسخرية خصومهم بأن هؤلاء مغرر بهم وسكارى بالعلاقة بالقدس وفلسطين، وأن طريق القدس لا تمر بالحديدة، كانت هذه المعارك في واقع الأمر في صلب المواجهة مع المشروع الصهيوني، وكان هؤلاء المقاتلون الأكثر بصيرة من العالم أجمع، وهو أمر يشهد عليه هذا العالم نفسه اليوم.

منذ أسبوع، وفي لقاء على منصات التواصل، قال رئيس مجلس إدارة وكالة “سبأ” اليمنية نصر الدين عامر، أن منطق اليمنيين هو الإعداد ضمن منطلق الآية القرآنية “وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً”: “اننا في اليمن وحين بدأت معركة طوفان الأقصى لم نؤت على حين غرة… لأننا ومنذ سنين وفي أصعب مراحل العدوان أردنا الخروج لنصرة فلسطين وعليه أعددنا العدة لذلك، وكنا نصنع الصواريخ لأنه لا يجوز لنا شرعًا ودينًا وأخلاقًا وعروبةً أن لا يكون لنا دور”. والشاهد على هذا الكلام قصة حصار الدريهمي، وقصة مروحية واحدة من طراز Mi-171sh، وهذا ما يجب سرده:

كانت الطريق للسيطرة على ميناء الحديدة تعني السيطرة على الطريق الساحلية الممتدة من المخا إلى الحديدة، وعليه حشد الإماراتيون والموالون لهم من “قوات العمالقة”، أو ما سماه الإعلام الإماراتي بـ”المقاومة اليمنية” في محاولة تشويه واستغلال وقع هذا اللفظ تاريخيًا على آذان العرب. بدأت عملية “السهم الذهبي” بهجوم صاخب عبر تغطية المدفعية والطيران الحربي والمروحي، وهو ما أدى إلى اختراقات واسعة وتراجع للقوات اليمنية، بشكل استغلته الإمارات لتسجيل والترويج لنصر كبير، إلى درجة خروج قائد حركة “أنصار الله” للحديث أن هذه الإختراقات طبيعية وسنتمكن من التعامل معها. وصلت القوات الموالية للإمارات إلى مديرية الدريهمي وطوقت المدينة من ثلاث جهات وتركت الرابعة لتتمكن القوات اليمنية من الإنسحاب منها، إلا أن القرار كان هو الحفاظ على المدينة مهما كلف الأمر، فاستُغلت الجهة الرابعة لرفد المدينة بالعتاد والمقاتلين، وهو ما دفع المهاجمين لتطويق المدينة من كل الجهات، وعليه بدأ حصار المدينة الفعلي.

خاض المقاتلون اليمنيون معارك صعبة لشهور طويلة، تحت قصف الطيران ومجازر عديدة في الأهالي، وأدت مأساة الحصار والضغط الإعلامي إلى هدنة وتنسيق لدخول قوافل مساعدات للأمم المتحدة، وسجلت هذه القوافل فضائح فساد وتلف برنامج المساعدات الأممي. وعليه، حتم على المحاصرين وحكومة صنعاء اللجوء إلى سبل أخرى، منها نقل الأدوية والغذاء ذات الوزن الخفيف عبر الطائرات المسيرة، ومن ثم استدعى الأمر استخدام صواريخ من طراز “بركان”، واستبدال الحشوة المتفجرة الكبيرة للصاروخ بملئها مواد غذائية، وأطلقت على الدريهمي مئات المقذوفات الصاروخية المحملة للغذاء على مدى أشهر. إلا أن قيادة صنعاء ارتأت أن مصيرية المعركة تستلزم إجراءات أكبر، ففي رسالة من قائد “أنصار الله” للمقاتلين المحاصرين أكد على أهمية الصمود في الدريهمي وشبهها بالثبات في جبل أحد.

مع بداية ما سمي بـ”عاصفة الحزم” استهدف السعوديون جميع المقدرات الجوية ومخازن الأسلحة للجيش اليمني، مستعينين بمعلومات ضباط الجيش نفسه الذين لجؤوا للرياض. وكانت أكثر جمل أحمد عسيري، المتحدث باسم “العاصفة”، أن القوات السعودية قد سيطرت على المجال الجوي اليمني وفرضت حظرًا جويًا. كذلك، استهدف الطيران السعودي طائرات سلاح الجو اليمني من الطيران الحربي إلى المروحي. إلا أن المفاجأة أنه وفي العاشر من رمضان من عام 2020، كشف اليمنيون عن تمكنهم من الحفاظ على مروحية واحدة من طراز Mi-171sh ومن ثم صيانتها وإصلاحها، وتم استخدامها وتحميلها بالغذاء والسلاح لكسر الحصار على مدينة الدريهمي، وكانت أول طلعة جوية يمنية منذ خمس سنوات تكسر الحظر الجوي، وتؤسس للانتصار وفك الحصار عن الدريهمي. هذه المروحية الوحيدة المتبقية التي ساهمت في أهم معارك الساحل التهامي، هي ذاتها، بعد ثلاث سنوات، ستصبغ بأعلام فلسطين واليمن وتحلق فوق سفينة مملوكة لأحد أغنياء الصهاينة فتسيطر عليها وتقودها إلى ميناء الحديدة، الميناء ذاته الذي لولا صمود الدريهمي لكان في يد حلفاء كيان العدو الإسرائيلي اليوم.

يمثّل اليمن حالة ثورية تحررية يجب نقلها عربيًا، وضمن القاعدة ذاتها: وإن أرادوا الخروج لأعدوا له. للقائد الفلسطيني جورج حبش قول بأن أفضل ما يمكن للشعوب العربية تقديمه لفلسطين هو النضال ضد أنظمتها العميلة. وهذا النضال ليس على نمط منافسة الأنظمة في خطاب الوطنيات أو النرجسيات الهوياتية أو خطاب حقوق الإنسان المحابي للغرب وتلقي التمويل والدعم من أعداء الشعب الفلسطيني، بل إن التغيير الحقيقي يكون بتبني السياسة والخطاب المتصلة بالقضية المركزية الفلسطينية وإعداد العدة لها، وممارسة السياسة ضمن هذا المنظور. وعلى لسان شاعر يمني منذ سنوات: “معاركنا معاركها وإن بعدت نواحينا”. من هنا، وضمن روحية الارتقاء بمستوى المرحلة، علينا نبذ الخطاب البالي بأننا حين “تصل الشعوب للديمقراطية سوف يكون خيارهم حينها دعم فلسطين”، وكأن الغرب والصهاينة سينتظرونك لتصل لحالة متخيلة من الديمقراطية. بل إن الواجب اليوم وفورًا، البدء بالاقتداء باليمن ولو من الناحية الخطابية والتعفف من السرديات الوطنية والمذهبية الضيقة ونفي الحدود العربية ولو من الناحية الذهنية. ولنتذكر أن هؤلاء قصار القامة السمر تصدوا لتحالف عشر دول الأكثر شراء للأسلحة في العالم، وقدموا الدماء ليحافظوا على طائرة مروحية واحدة، ويواجهوا بها الغزاة الصهاينة، فما عذرنا نحن؟

قد يعجبك ايضا