حرب بلا قواعد!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
المفاجأة الكابوسية التي استفاقت عليها القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية صبيحة السابع من أكتوبر الماضي في «غلاف غزة»، قادت سريعاً، بانفعال وارتجال، إلى إقرار وبلورة سياسة عامة، بل نهج سياسي وسلوكي متكامل حيال ما حصل. مقتل ثلاثة محتجزين إسرائيليين (منتصف الشهر الحالي) من قبل وحدة من القوات الإسرائيلية التي كانت تسعى لتحريرهم، كان محطة شديدة التعبير والدلالة في مجرى هذا النهج المذعور والدموي والبربري الذي طبع، ولا يزال، مجمل التوجهات والإجراءات الإسرائيلية حيال غزة ومقاتليها ومدنييها وعمرانها وأسباب الحياة فيها. هذا النهج شمل أيضاً «الضفة الغربية» المحتلة في نطاق حملة اعتداءات إرهابية متواصلة على مخيماتها ومدنها (شارك فيها همجيو المستوطنين المسلحين بإشراف وتشجيع من السلطة الصهيونية).تبلور هذا النهج، بالصوت والصورة، أمام أنظار العالم المشدوه، القريب والبعيد، عبر أقصى توتر وغضب وخيبة من قبل القيادة الإسرائيلية، مقترناً بإجراءات عسكرية إجرامية، وبتهديدات عالية النبرة، وبتحديد أهداف قصوى، وبإطلاق «كلام كبير» وصريح، بشأن مجمل المشروع الصهيوني، لم يُعلن بهذا الوضوح سابقاً! كان الأكثر هياجاً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، المطلوب من قبل القضاء والذي خاض معركة ضارية لاستتباعه، ثم أقطاب «حكومة الحرب» ذات الطابع الائتلافي غير الشامل رغم فداحة الأزمة، فضلاً، طبعاً، عن عتاة المتطرفين.
لم يكن ذلك مستغرباً بمقاييس عديدة ولعوامل وأسباب، من أبرزها:
أولاً، وقعُ صدمة «طوفان الأقصى» كان هائلاً، حتى الضياع، بمقدار ما كانت نتائجها، لجهة العبور والسيطرة والخسائر والمحتجزين، ضخمةً وغير مسبوقة.
ثانياً، وقعُ وأهمية مسارعة قادة العالم الغربي إلى الحضور إلى تل أبيب، للدعم والتحريض، بدءاً بالرئيس الأميركي وكل أركانه السياسيين والأمنيين والعسكريين. كشفَ هذا الحضور الذي رافقته الأساطيل، في جانب منه، حجم الضياع والارتباك الإسرائيلييْن.
ثالثاً، ضراوة الهجوم التدميري الإبادي التهجيري، الأعمى والموجّه ضد البشر والحجر والعمران والبنية الخدماتية والصحية في قطاع غزة، الذي باشرته «حكومة الحرب» على نحو همجي وشامل. لم يستثنِ هذا الهجوم، الذي استهدف المدنيين خصوصاً، أحداً في القطاع، من منظمات دولية وصحية وتربوية، ما أثار موجة من الاستهجان والشجب الشديديْن، تجسّدت، تباعاً، في تظاهرات صاخبة وواسعة وحاشدة، ندّدت بالسلطات الإسرائيلية وبداعميها، وساهمت، إلى حد غير مسبوق، في كشف الإرهابي الحقيقي، وفي فضح الرواية المضلّلة الإسرائيلية الغربية بشأن الصراع والمسؤوليات والحلول.
رابعاً، تجاوزت هذه الحرب كل الحروب السابقة من حيث المدة، على غموض وشك كبيريْن، بشأن نهايتها وتفاعلاتها ومآلاتها، في الكيان الصهيوني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. في هذه الحرب، إسرائيل، وعلى نحو لافت، لم تكن هي المبادرة: لا في بدايتها ولا في نهايتها. العامل الخامس، المتصل بالعامل الرابع مباشرةً (وبسواه بشكل غير مباشر)، هو فتح معركة الضفة الغربية المحتلة بالتزامن مع معركة قطاع غزة. ذلك أن مشروع التهجير يشمل كل فلسطين وصولاً إلى ما يسمى بفلسطينيي الـ 48. فبمقتضى «يهودية الدولة» ومشروع السيطرة على كل فلسطين التاريخية، لا مكان للفلسطينيين في هذا المشروع إلا خاضعين أو مسخّرين. الإبادة هي الأخرى، إلى التهجير، أداة ليست طارئة على أساليب الصهاينة لفرض مشروعهم الاغتصابي الاحتلالي. لطالما كانت المجازر والتمييز والإرهاب والحصار والتجريف… أدوات قائمة في صلب المشروع وفي شروط توسّعه وترسّخه. وهكذا هو الوضع الآن، آملاً في فرض «خريطة جديدة» للشرق الأوسط (وليس لفلسطين وحدها) كما أعلن نتنياهو في أول تصريح له بعد عملية «طوفان الأقصى».
العامل، أو السبب السادس، هو وجود مجموعة من المتطرفين المهووسين في قيادة الحكومة الإسرائيلية: في مواقع أساسية، تحكم استمرار رئاسة ومصير نتنياهو نفسه، وتتحكّم بالأمن والمال في السلطة الإسرائيلية.
أمّا العامل السابع، فهو مبادرة «حزب الله»، إلى إعلان تضامنه مع المقاومة في غزة، عبر فتح معركة استنزاف على طول الحدود اللبنانية مع قوات العدو في فلسطين المحتلة. حصل ذلك رغم الجهود والضغوط الهائلة التي بذلتها إدارة الحرب بقيادة واشنطن: لعدم أو لمنع فتحها، ومن ثم، لعدم توسيعها، وأخيراً، لإيقافها تلبية للمصالح الإسرائيلية.
ثامناً، التدخل اليمني، عبر قيادة صنعاء، بفرض حصار في البحر الأحمر والخليج العربي على السفن الإسرائيلية، وعلى تلك التي تتجه إلى ميناء «إيلات».
يمكن أن نضيف عوامل أخرى ليست قليلة الأهمية، كرفض كل من مصر والأردن لمشروع التهجير الفلسطيني إلى سيناء والأردن، وإن خدمة لمصالح نظامي البلدين قبل أي اعتبار آخر. وأخيراً وليس آخراً، ما جابهته عمليات التدمير والإبادة والحصار من تظاهرات في كل أنحاء العالم (وخصوصاً في العواصم الغربية) استنكاراً للهمجية الصهيونية في استهداف المدنيين والمؤسسات الصحية والإغاثية الدولية. في السياق، اختبرت واشنطن نفسها تحولات سريعة في توازنات وتوقّعات نتائج معركتها الرئاسية القادمة لغير مصلحة «الحزب الديموقراطي» ومرشحه الرئيس بايدن.
هذه الخلطة من العوامل، تركت أسوأ الآثار على القيادة الإسرائيلية: فبدت ضائعة، وخائبة، وفاقدة للاتّزان، في التفكير، والتصرف، وردود الفعل العمياء والإجرامية والانتقامية المتفلّتة من كل الضوابط والحدود القانونية أو الحضارية أو الإنسانية. ولا عجب، إذ هي تتفوّق، بذلك، على نفسها في الوحشية والهمجية، مستحضرة (وبوسائل أكثر فتكاً) عصور الظلمات وشريعة الغاب، وصولاً إلى «العصر الحجري» الذي به توعّدت ونفّذت! إنه جموح جنوني مذعور فاقمته الإخفاقات والخسائر في الميدان المستعصي، والدعم المفتوح والإجرامي من قبل واشنطن وفريقها الأطلسي. أن تقتل من تحاول إنقاذه، رغم أنه جاء إليك وخاطبك بلغتك معرّفاً بنفسه، فتلك هي قمة الذعر الصافي والأرعن والأعمى! أمّا أن تقتله، بإصرار وتكرار، وهو أعزل ونصف عار يرفع راية بيضاء، فكأنما «قتلت الناس جميعاً»: قتلت التمدّن والحضارة والأخلاق. حرب بلا أسرى ولا قيود ولا قواعد!
سيكون على العالم أن يدفع، لمدة طويلة، ثمن انحطاط وبربرية الصهاينة وداعميهم، وخصوصاً في واشنطن ولندن، ولإزالة قذارتهم التي أعادت البشرية إلى العصور البدائية. أمّا شعب فلسطين، فسيكون له شرف المقاومة الباسلة والتضحيات العظيمة دفاعاً عن حقوقه، وعن منجزات الحضارة البشرية، ضد الهمجيّة والتوحّش والظلم.