الوجود الأميركي في المنطقة بعد «طوفان الأقصى»
غزة – وما يسطرون|
ين ظهراني معركة «طوفان الأقصى»، واحتمالات توسيع رقعة الحرب، ثمّة تأثيرات كبيرة على المصالح الأميركية، وتهشيم لصورة واشنطن القوة المهيمنة والقائدة للمنطقة كيفما تشاء، وبالتالي تأثيرٌ على علاقات الولايات المتحدة مع دول المنطقة، وخصوصاً حلفاءَها الذين كانوا يعتبرون أنها مصدر الأمان لهم. منذ بداية المعركة، كان البيت الأبيض يفكّر بعقلانية للتعامل مع إدارة هذه الحرب – لا يعني ذلك عدم اشتراكه بالجريمة وقتل الأطفال – لأن رؤية واشنطن الإستراتيجية لمجريات ما يحصل تنطلق من أن هناك خصوماً وأعداء تقدّموا في المنطقة ولديهم القدرة على التأثير والإضرار بالمصالح الأميركية.
ويمكننا القول إنّ تقييم واشنطن، بالنسبة إلى الفاعلين واللاعبين الدوليين والإقليميين، أنهم يستفيدون من توسّع الحرب، حيث إن للفاعلين الدوليين مصلحة كبرى في أن تدخل واشنطن في مستنقع جديد يضعف من قوتها في المنطقة، وبالتالي يقلّل من هيمنتها على النظام الدولي. وكما يتضح لنا فإن روسيا، في نظر واشنطن، سوف تستفيد من تخفيف الضغط الدولي عليها وتتمكّن أكثر من الاستفراد بأوكرانيا، فيما الصين، التي تلعب على التناقضات، كانت تسجّل أهدافاً كثيرة في مرمى واشنطن.
لا ينتهي الأمر على مستوى القوتين العظميْين، الداعمتين أو المستفيدتين من صعود القوى الإقليمية المناوئة لواشنطن، بل ينسحب أيضاً على جدول توزّع القوى في الساحة الإقليمية، والذي لم يعد بيد واشنطن، بل أصبح أكثر تعقيداً وخطورة على مصالحها وقواتها والأمن الذي تريد تثبيته، إذ إن قوى محور المقاومة موجودة قربَ القواعد الأميركية، وتملك الإمكانات والإرادة لاستهداف مصالح واشنطن وقواعدها، وبالتالي خوض معركة كبرى لإفشال المشروع الأميركي، وهذا ما بدأ يحصل فعلاً خلال اشتداد الحرب على قطاع غزة.
يضاف إلى ما تقدّم، سيناريو إعادة تموضع حلفاء واشنطن وكيفية قراءة المشهد وتحديد الخيارات بالنسبة إلى المرحلة المقبلة، بعد اهتزاز النفوذ الأميركي إقليمياً ودولياً؛ فالعالم كله يشاهد كيف تُستهدف القواعد الأميركية في سوريا والعراق وغيرهما، ما يؤثر على الهيبة الأميركية.
لا شك أن ما حصل عقب «طوفان الأقصى» سيجعل الحسابات الأميركية، وتموضعاتها السياسية والعسكرية، تختلف تماماً عمّا كانت عليه قبل العملية، مع ما يحمله ذلك من تأثيرات متعددة على الوجود الأميركي في المنطقة. وعليه، تعيد هذه الحرب خلط الأوراق الإقليمية من جديد، وذلك بخلاف ما كانت تعمل عليه واشنطن للمنطقة من ترتيبات سياسية وأمنية.
انطلاقاً من هذه الحسابات، يمكن الإجابة على السؤال: كيف ستكون رؤية واشنطن للمرحلة المقبلة في المنطقة؟
إنّ الإستراتيجية الأميركية المقبلة ستقوم على إعادة تثبيت وجودها في الإقليم، بعد أن كانت واشنطن تعمل على تخفيف ثقلها فيه، وترتيبه أمنياً وسياسياً واقتصادياً من أجل التفرّغ لمواجهة التهديد الصيني الإستراتيجي كمنافس لها على صعيد العلاقات الدولية، إضافة إلى حرب أوكرانيا وتداعياتها على صورة الولايات المتحدة في قمة النظام الدولي.
وبعد أن كانت الإدارة الأميركية تنكفئ عن المنطقة كما ذكرنا آنفاً، من أجل التفرّغ أكثر للتحديات في شرق آسيا، باتت أمام حاجة ملحّة إلى انخراط أكثر في متابعة ملفاتها، وبالتالي أن ترفع من وتيرة عملها واهتمامها، ليس فقط من أجل إعادة هيبة الردع الإسرائيلية كون هزيمة إسرائيل تهشيماً لصورة أميركا في العالم، ولا فقط من أجل إدارة مشروعها القائم على تطبيع العلاقات بين دولها وإسرائيل، بل لأنها ستكون معنية أكثر بالحفاظ على نفوذها الذي يُعتبر المنطلق الأساسي لبقاء هيمنتها على النظام الدولي، وقطع الطريق على موسكو وبكين وطهران ومحور المقاومة من التقدّم أكثر في المنطقة. سوف تسعى واشنطن لمنع هذه القوى من الاستفادة من الفراغ الأميركي لزيادة النفوذ، وبالتالي التقدّم أكثر إلى قمة النظام الدولي والتأثير على الهيمنة الأميركية.
واشنطن، التي كانت تتجه لإعادة تموضعها في الإقليم وإيجاد بدائل للتفرّغ لأوراسيا وشرق آسيا للحفاظ على هيمنتها وقوتها في وجه روسيا والصين، أصبحت اليوم بحاجة إلى تثبيت قوتها هنا، لذا نتوقّع أن تقوم بتركيز أكبر على المنطقة بعد انتهاء الحرب على غزة. كما ستعيد قراءة الأحداث بصورة أكثر واقعية، لتقوم بالبحث عن ترتيبات جديدة، وخاصةً محاولة المحافظة على مسار التطبيع بين السعودية والكيان الإسرائيلي، فيما ستكون في مواجهة كبرى مع محور المقاومة، في محاولة لتكبيل قوة المحور ولجم صعوده ومراكمته للإنجازات.
ما تقدّم في قراءة التموضع الأميركي، لا يعني أن واشنطن سوف تتراجع عن مراكمة القوة والوجود والتركيز على تثبيت النفوذ في شرق آسيا وكذلك نفوذ حلف شمال الأطلسي في شرق أوروبا، لكن من الممكن أن يؤدي ذلك إلى إضعاف القدرة الأميركية نتيجة تعدّد ساحات المواجهة والعمل وكثرة الاستحقاقات.