إجرام الصهاينة: التفوّق على الذات!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
هدّد مسؤولون إسرائيليون كبار، مراراً، بأنهم سيعيدون لبنان إلى «العصر الحجري»! الأقل مبالغة أو عدوانية، اكتفى بالتهديد بإعادة لبنان 50 سنة إلى الوراء! ينبغي القول إنّ هذه التهديدات ليست مجرّد تهويل (على غرار بعض التهديد الذي يصدر عن أطراف عربية أو سواها) منقطع عن أي رغبة أو قدرة على جعله، بهذه الدرجة أو تلك، أمراً واقعاً. عام 2006، استهدفت إسرائيل البنية التحتية في لبنان، دمَّرت الطرقات والجسور ومؤسسات الخدمة العامة من ماء وكهرباء واتصالات، ضربت المطار وعطَّلت الملاحة البحرية، استهدفت مؤسسات إعلامية وسوّتها بالأرض، وكذلك قصف الجيش الإسرائيلي أحياء بكاملها في الضاحية الجنوبية والجنوب اللبناني وحوّلها إلى كومة من الحجار (نسبة إلى حجري). وقبل ذلك بحوالى ربع قرن (1982)، لاحق الطيران الإسرائيلي قادة منظمة التحرير، وخصوصاً الشهيد ياسر عرفات، من بناية إلى أخرى، مستخدماً قنابل فراغية جعلت أبنيةً بكاملها تنهار بهدوءٍ قاتل. وهي قد توَّجت هجومها الإرهابي الاحتلالي الشامل، بالتحريض والإشراف على مجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأهالي، فلسطينيين خصوصاً، بأبشع الأشكال وأكثرها همجية. هؤلاء كانوا قد أصبحوا من دون حماية إذ كان القادة والمقاتلون الفلسطينيون قد غادروا لبنان بموجب اتفاق فيليب حبيب، الوسيط الأميركي «النزيه»، هو الآخر، آنذاك أيضاً.في أساس أدوات المشروع الصهيوني، ثم إنشاء الكيان عام 1948، كانت على الدوام بذور الإكراه والعنف والإجرام والمجازر، لكي تتمكّن أقليةٌ مدعومة، آنذاك من المستعمر المنتدب البريطاني، من طرد شعب من أرض وإقامة كيان إحلالي واحتلالي مكانه: تطبيقاً لنظرية «إحلال شعب بلا أرض في أرض من دون شعب». منذ البدايات وحتى اليوم، اعتمدت إسرائيل سياسة إرهاب الدولة، وهي لم تتورّع عن اغتيال ممثلي الأمم المتحدة وتنظيم الاغتيالات التي استهدفت القادة والكفاءات والعلماء، فلسطينيين وعرباً وسواهم، ممن قد يشكّلون في وقتٍ ما خطراً محتملاً على الكيان الصهيوني. وحين تهدّد إسرائيل اليوم بملاحقة ممثلي «حماس» في كل مكان (قطر وتركيا ولبنان…)، فإنما تستأنف نشاطاً «روتينياً» مارسته في مصر وأوروبا وطهران وبيروت ودمشق… وبغداد حيث قصفت المفاعل النووي العراقي غير عابئة، في كل الحالات والأماكن، بسيادة الدول أو بأمنها أو مصالحها.
القتل والمجازر والإبادة والتهجير والتدمير، أسلوب وجود وبقاء بالنسبة إلى الكيان الصهيوني. لذلك من الخطأ، نسبياً، اليوم حسبان أنّ حكومة الحرب في إسرائيل لم تنجز شيئاً حتى الآن. لقد أنجزت أمراً خطيراً ومهماً بالنسبة إلى أجندة وجودها وبقائها: جعْل غزة مكاناً غير صالح للعيش بالنسبة إلى العدد الأكبر من سكانه. هذا سيحدّ بشكلٍ كبير من قدرة القطاع على مواصلة مساهمة سكّانه ومقاتليه في الكفاح ضد المشروع الصهيوني الذي تقترن، في أدوات تحققه وتوسعه، تصفية القضية بتصفية أصحابها جسدياً وعمرانياً وثقافياً وروحياً واجتماعياً واقتصادياً. لقد كان التهجير القسري بالإرهاب والمجازر والدمار عاملاً مهماً في تمكين الصهاينة من فرض مشروعهم الاغتصابي الاستيطاني في الجزء الأكبر من فلسطين. وهم الآن يواصلون: بالاستيطان الكثيف الإحلالي والتشتيتي، وبالإرهاب والتدمير والمجازر، مرحلة مهمة وأساسية في منع إقامة دولة محرَّرة على أي جزء من فلسطين. ودائماً ما كان منع إقامة «دولة عربية» بموجب قرار الأمم المتحدة 181، نفسه الذي شرعن دولة الاغتصاب، هاجساً وأولوية من أجل تمكينها من التوسع جغرافياً وسياسياً واقتصادياً: بهزائم الأنظمة وبالمعاهدات، بالأمس، بالتطبيع المتواصل، ودائماً بالدعم الاستثنائي من الغرب الاستعماري وفي طليعته واشنطن.
يجسّد ما يحدث على أرض غزة البطلة من دمار رهيب وقتل لا مثيل لإجرامه، محطةً جديدةً في مسار تصفية القضية ومراحلها، يتم ذلك بشراكة وقحة وبالغة الاستفزاز والعدوانية من قِبل التحالف الغربي الذي دائماً ما روّج، على سبيل التضليل، لشعارات حقوق الإنسان والديموقراطية والمساواة والحضارة. وهو استغلّ على الدوام ثغرات قاتلة في نهج وسياسات وأساليب خصومه ممن حاولوا إدارة نهج استقلالي بهذا القدر أو ذاك.
إنّ تدمير الصهاينة لبعض منجزات الحضارة الإنسانية الذي يحدث على مرأى العالم ومسمعه، هو أمر يفضح ليس الصهاينة وحدهم، بل أساساً، أولئك الذين أدمنوا التفاخر بأنهم في الغرب سدنة الحضارة في وجه التخلّف والبربرية وشريعة الغاب. كتب الباحث السعودي يوسف الديني: «ثوابت ومشتركات إنسانية هي اليوم في خطر كبير جداً بسبب تخاذل المجتمع الدولي عن إيقاف الحرب الوحشية والهمجية التي تقوم بها إسرائيل» («الشرق الأوسط» 5/12/2023، ص 14). هذا الكلام جيد، وسيصبح أكثر صحة وجودة إذا أُضيف له أن النظام الرسمي العربي متخاذل ومتواطئ، بالمقدار نفسه أيضاً: وبمسؤولية أخلاقية أكبر بالطبع!
لقد كانت المؤامرة على الشعب الفلسطيني، منذ البداية، ثمرةً مُرة لعدة عوامل ومسؤوليات دولية وإقليمية. في السياق، إنه في مفارقات المشهد أن إسرائيل التي تتملّك، على ما هو شائع (ومن دون أن تعترف)، 200 رأس نووي، رفضت دائماً التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. وهي لم تكتفِ بذلك، بل سعت، بكل وسائل العدوان أو التهديد به، لمنع الآخرين من مجرّد بناء مفاعل نووي ولو لأغراض سلمية. ولم يجفّ بعد حبر تهديداتها المتكرّرة والاستفزازية بضرب المشروع النووي الإيراني ولو كلّف الأمر حرباً إقليمية أو دولية. وهكذا، حين طالب وزير البيئة (!) الإسرائيلي باللجوء إلى السلاح النووي للقضاء على غزة، فهو لم يرتكب هفوة، إنما كان يعكس بيئة حكّام إسرائيل الذين اختاروه وزيراً للبيئة في حكومة أقصى التعصّب والتطرّف في تاريخ الكيان الصهيوني!
إنّ مأساةً هائلةً تدور على مرأى ومشهد من العالم ضد الأطفال والنساء والمدنيين والمؤسسات الصحية والمدارس والمنظمات الدولية، وسط حصار تجويع وقتل ودمار، يحدث ذلك بانتهاك صارخ لـ«المشتركات الإنسانية» على نحو لا مثيل له في التاريخ «المرئي». إنّ قادة الصهاينة وداعميهم يعيدون البشرية، بالفعل، إلى العصر الحجري، بسبب العدوان والاحتلال والتوسع والجشع. إنّ بعض ما أُقرّ من تشريعات إثر الحروب والنزاعات الكبرى، لم يعالج الأسباب الكامنة أساساً في نزعة الاستغلال والاحتلال والسيطرة والنهب وانتهاك حقوق الدول وسيادتها، ولكنّه حاول معالجة بعض آثارها المتوحّشة. وهو صاغ، في خدمة ذلك قوانين حروب وتشريعات إنسانية. إنّ انتهاك إسرائيل وداعميها لتلك القوانين والتشريعات هو ما يعيد البشرية، بالفعل، إلى العصر الحجري وإلى شريعة الغاب! ليس هناك من ينافس الصهاينة على الصدارة في حقل التوحّش والإجرام، وإنما هم أنفسهم من يتفوّقون على ذواتهم.