إسرائيل تمنع حرّية التعبير في العالم أجمع
اسعد أبو خليل – وما يسطرون|
إسرائيل في ورطة كبرى. وجودُها ودوامُها مرتبطٌ، كليّاً، بالدعم الأميركي لها. الدعم الأوروبي يرتبط بالدعم الأميركي، لو زالَ زالَ. عسكريّاً، لم تعد الدولة تستطيع أن تدافع عن نفسها كما في الماضي. استعانت في مواجهة منظّمة فلسطينيّة مسلّحة بتدخّل عسكري أميركي وبريطاني وألماني إلى جانبها. لولا القليل من الحياء، كانت السعوديّة والإمارات سترسلان قوّاتهما لدعم الجيش الإسرائيلي. والتعاطف مع إسرائيل تناقصَ كثيراً عبر السنوات في البلدان الغربيّة، أي الدول التي تعتبرها الدولة العنصريّة مؤثّرة. عندما يكون التعاطف مع إسرائيل بين الشباب نحو الثلث أو أقلّ في أميركا، تكون إسرائيل تواجه مستقبلاً غير زاهٍ لها. صحيح، تستطيع أن تكون أكثريّة الشعب الغربي مع فلسطين، وتبقى الأحزاب المؤثّرة داعمة في قياداتها لإسرائيل، كما الحال في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوروبيّة. هاكُم الحزب الديموقراطي الأميركي: بات نصفه، أو أكثر قليلاً، ميّالاً إلى الجانب الفلسطيني، ولكن قيادة الحزب صلبة في تعصّبها لإسرائيل. أجيال جديدة تنبذ الصهيونية وتجاهر بقرفها من دولة إسرائيل. هناك جيل جديد سيتربّى حول العالم على كراهية إسرائيل من خلال مشاهد القتل والتدمير في غزة. المؤشّر في أميركا هم نجوم هوليوود: أكثرهم صمتوا والصمت دليل عدم تعاطف مع إسرائيل. المُتعاطف مع إسرائيل يُجاهر، الصامت يكون خائفاً من المجاهرة بموقف معارض لإسرائيل. مشهدٌ قبل أيّام لم أكن أظنّ أنني سأراه. استدعى الكونغرس الأميركي رؤساء ثلاث جامعات نخبويّة كبرى واستجوبهم حول حرّيات التعبير في حرمهم وكيف أنّ الإدارة لم تحظر التعبير المعادي لإسرائيل (معادٍ لليهود حسب الكونغرس). ما هو التعبير المعادي لليهود في عرف الكونغرس؟ يتراوح بين رفع شعار «الانتفاضة» وبين رفع شعار «من البحر إلى النهر»، الذي بات يقضّ مضاجع الصهاينة في الغرب. الشعار بات محظوراً في عدد من الجامعات، ولكنّ النشطاء الفلسطينيّين (خصوصاً الطالبات الفلسطينيّات اللواتي يقدن العمل الفلسطيني في أميركا) لا يكترثون ويهتفون بملء حناجرهم، «من البحر إلى النهر»، وهو قويّ بالإنكليزيّة ويَعِدُ بـ«تحرير فلسطين». لكن أميركا كانت تزهو بنفسها أنها، خلافاً للدول الشيوعيّة، تحترم الحرّيات (وكانت تزهو بنفسها عندما كانت الكلاب البوليسيّة تطارد السود في شوارع الجنوب وعندما كانت الماكرثيّة المحمومة تسود في البلاد وتمنع حريّات التعبير باسم… الحريّة).
الكونغرس بات يراقب مسار حرّية التعبير في الجامعات ليضمن أنها محدودة ومقيّدة لأن الحرّيات غير المقيّدة تزعج الطلاب اليهود وتجعلهم يقلقون على مصيرهم. طالبة يهودية صهيونيّة قالت إن زملاءها أشعروها بأنها غير محبوبة لأنها تدعم إسرائيل، وقالت إنها شعرت بمعاداة سامية فظيعة. وتنقالت الصحافة قضيّتَها، وكادت أن تصبح آن فرانك القرن الواحد والعشرين. وهؤلاء، باستسهالهم لاستعمال معاداة الساميّة، ينفّرون الناس من المعركة الحقيقيّة ضد معاداة الساميّة، لأن إسرائيل والصهاينة لا يمانعون من التحالف مع أعتى معادي الساميّة في الغرب إذا كانوا موالين لإسرائيل. مَحجّة إيلون ماسك إلى إسرائيل كانت أبلغ دليل: عُفيَ عن معاداته للسامية بمجرّد أن التقى نتنياهو وذمَّ «حماس». أساتذة الجامعة اعترفوا هنا (في استطلاع جديد) بأنهم لا يشعرون بحرّية الحديث عن الصراع العربي-الإسرائيلي وأكثرهم اعترف أنه يخاف (بأكثرية 81%) من اعتراض مناصري إسرائيل على كلامهم. الكونغرس لا يكتفي: يريد حظر النوادي المناصرة لفلسطين وجرّ الهاتفين بتحرير فلسطين للمحاسبة أو المحاكمة. إسرائيل واللوبي الإسرائيلي يفقدان أعصابهما.
تحتاج إسرائيل إلى مزيد من الوسائل لرفض وجهة النظر الصهيونيّة. ليس هناك من طريقة إلّا حظر معاداة الصهيونيّة، وهو، أي الحظر، ينتشر ويمتدّ من دولة غربيّة إلى أخرى. الذي أقلقَ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن (والذي يرعى اللوبيات الإسرائيليّة حول العالم، وهو ينسّق مع السفارة السعوديّة والإماراتيّة في العاصمة الأميركيّة) كل مظاهر التعاطف الشبابي مع فلسطين، خصوصاً في دول الغرب. إسرائيل لا تكترث للرأي العام إلّا في دول الغرب لأن العنصريّة تجمعها مع قادة الغرب، ولأن عداءها للملوّنين جمعها تاريخيّاً مع الرجل الأبيض في جنوب أفريقيا وفي أوروبا وأميركا. سلاح معاداة السامية بيد إسرائيل ليس جديداً. وقد أفرد نورمان فنكلشتين (الذي يكرّس الكثير من وقته هذه الأيام لدحض الدعاية والأكاذيب الصهيونيّة، مستعيناً في سرديّته بنجاة والديه من المحرقة وفناء معظم أفراد عائلته فيها) دراسات عن التسليح السياسي لمعاداة السامية من قبل الحركة الصهيونيّة. واجهت إسرائيل عبد الناصر به واختلقت أكاذيب عنه، بما فيه أنه دعا إلى رمي اليهود بالبحر، وهم زعموا، كَذِباً أيضاً، أن أحمد الشقيري قالها (لم أجد أي إشارة لها في الأدب السياسي العربي إلّا في تصريح لحسن البنا في سنة 1948 في مجلّة «المصوّر» المصريّة). وخامنئي نفى أخيراً أن يكون هدف إيران رمي اليهود في البحر، ولكن وسائل الإعلام الصهيونية، التي تتخصّص في نقل كلام الكراهية من العرب والمسلمين وترجمته، تجاهلت كلام خامنئي لأنه لا يتّسق مع السرديّة. كان يهوشوفاط هاركابي يتخصّص (قبل زمن منظمة «ميمري» التي أسّسها مسؤول إسرائيلي استخباراتي «سابق») في تجميع كلام الكراهية المعادي لليهود كيهود في الثقافة العربيّة. طبعاً، كان النصيب الأكبر من هذا الكلام ينطلق من الخليج. السعودية استثمرت كثيراً في أدب الكراهية ضد اليهود. انتقلت دولة السعودية والإمارات من أدب كراهية اليهود إلى أدب حب اليهود، ورفع شأنهم (في الوقت الذي لا يزال إعلام السعودية يزخر بكراهية الشيعة).
ودفع تهمة معاداة اليهودية سهلة: أن يمتنع العربي ومناصرو القضيّة عن التعبير المعادي لليهود. وبالفعل، تطوّر الخطاب السياسي العربي نحو خطاب إنساني ينبذ الخطاب المعادي لليهود. عند الجمعيات ووسائل الإعلام المُموَّلة من حكومات «الناتو» وسوروس، تطرّفوا بالاتجاه الغربي: يعترضون على أي كلمة مهينة لليهود (والاعتراض محمود) ولكنهم لا يمانعون في خطابات التحريض ضد الشيعة والعلويّين في الخطاب السياسي العربي، الخليجي المصدر. وهناك بعض العرب يردّ ببلاهة عبر القول: لا يمكن للعرب أن يكونوا معادين للسامية لأنهم ساميّون. لا، المعنى الإيتومولوجي للكلمة لا يهمّ، لأن المعنى المتعارف يعني معاداة اليهود فقط، وليس كل الشعوب الساميّة. وحتى حزب الله في وثيقته السياسية الأخيرة في عام 2009 نبذ معاداة اليهودية وحصر العداء بالصهيونية، كما فعلت «حماس» في وثيقتها من عام 2017، مع أن بعض قادة «حماس» لا يزالون يتحدّثون بخطاب معادٍ لليهود (وترصد هذا الخطاب منظمة «ميمري» وتترجمه وتوزّعه على نطاق واسع حول العالم).
وجد الصهاينة طريقة أخرى. ماذا لو أعدنا تعريف معاداة السامية كي تشمل أيّ نقد لإسرائيل. وبالفعل، تفتّقت قريحة منظمة «اتحاد تذكّر المحرقة الدولي» عن تعريف جديد لمعاداة السامية. والتعريف بات مُعتمَداً من قبل الكونغرس الأميركي ووزارة الخارجيّة الأميركيّة. التعريف الجديد مضحك في جهده لحظر الخطاب المزعج لإسرائيل. هو مثلاً يعتبر أن أيّ نقد لإسرائيل بمنسوب مفرط يندرج في معاداة السامية (أي هم يحدّدون لنا منسوب نقد إسرائيل. وأي تعامل مع إسرائيل بطريقة تختلف عن التعامل مع أي دولة أخرى يندرج ضمن معاداة السامية. أي إنه علينا في نقدنا لإسرائيل أن نصرّ على نقد دول أخرى، إسلامية أو عربية، كي لا يكون نقدنا حصرياً بدولة هي يهودية. وإياك أن تعارض حقّ تقرير المصير لليهود. هذا من ضمن معاداة السامية. لكن كما قال المستشرق الفرنسي، ماكسيم رودنسون، ذات مرّة: أنا لست ضدّ حقّ تقرير المصير لليهود على سطح القمر، مثلاً. وما عناه، أنه لا يمانع أن يكون لليهود الحق في إقامة دولة على ألّا تكون على حساب دولة أخرى. ومقارنة إسرائيل بالنازية هي أيضاً معاداة للسامية، حسب التعريف. لكن إسرائيل تقارن أعداءها دائماً بالنازيّة: من زمن الحاج أمين إلى زمن الشقيري إلى الزمن الحالي. يحقّ لها وحدها عقد المقارنات كما تشاء، كما فعل نتنياهو عندما برّأ هتلر من جريمة المحرقة وحاجج أنّ المسلمين هم الذين أوعزوا له بذلك. ويضيف التعريف أنّ لوم اليهود على أفعال إسرائيل هو معاداة للسامية، وهذا صحيح. لكن إسرائيل هي المذنبة في هذا الصدد. هي تصرّ على أنها دولة كل اليهود حول العالم مما يزيل الفصل، ظلماً، بينها كدولة احتلاليّة استيطانيّة وبين يهود العالم وبعضهم لا شأن لهم بإسرائيل. وهناك مسعى جدّي اليوم لإعادة التعريف مرّة أخرى لإضافة كلمات «الانتفاضة» وهتاف «من البحر إلى النهر» إلى تعريف متجدّد لمعاداة اليهوديّة.
السعي لن ينتهي. ستكون هناك هتافات جديدة ومصطلحات جديدة تنتشر بين جماهير الشباب في دول الغرب. انتهى عهد سيطرة اللوبي الإسرائيلي على كل قطاعات الرأي العام الأميركي. حتى السود كانوا في مصاف المواقف الصهيونيّة في الماضي. السود اليوم من أقل المجموعات تأييداً لإسرائيل. في المظاهرات التي جرت هنا، كانوا الأجرأ وبعضهم هتف لـ«حماس» وعمليّة «طوفان الأقصى». ويستطيع السود أن يتمتّعوا بحرّية تعبير تفوق حرّية تعبير العرب والمسلمين في أميركا. الجامعات خرجت عن السيطرة، وهناك حملة اليوم لفصل رؤساء جامعات لأنهم سمحوا بتظاهرات سُجّلت فيها هتافات «من البحر إلى النهر» أو مصطلح «انتفاضة» الذي يخيف ويُعتَبر أنه دعوة لإبادة اليهود. من دون مبالغة، إنّ كل الهتافات من أجل فلسطين باتت، حسب تعريف جديد ومبتكر، بمثابة دعوات لإبادة كل اليهود في عالم. والتظلّم، أو اصطناع التظلّم، بات من عدة عمل اللوبيات الإسرائليّة حول العالم.
الصهيونيّة هي اليوم العدوّ الأوّل لحرية التعبير في العالم، خصوصاً العالم الغربي الذي يمدّها بما تحتاجه من سلاح ومال وتغطية إعلاميّة في جرائمها المستمرّة. لكن السياسة الصهيونيّة لا يمكن إلا وأن تصطدم بعقبة: كلّما ضغطت إسرائيل على حكومات الغرب من أجل حظر التعبير المناصر لفلسطين كلّما فضحت كذبة الحرّيات في العالم الغربي. عندما يتدخّل الكونغرس الأميركي في مسألة تعبيرات الطلاب في الحرم الجامعي في البلاد، فإنّ ذلك يخفّض من مرتبة دول الغرب في السلّم الذي اختلقه الغرب كي يرى نفسه فيه متفوّقاً على دول المنظومة الشيوعيّة. لن تنجح إسرائيل في المسعى. عندما تشاهد الطلاب وهم يهتفون بشعار «من البحر إلى النهر» تعلم أنه ليس من قوّة تستطيع أن توقف هذا الزخم الشبابي. ومحاولات قمعهم ستبوء بالفشل وسترتدّ عكسياً. هناك إصرار من شباب الجامعات على التحدّي. أعددتُ كلمةً لتظاهرة طلابيّة في جامعة هنا ووجدتُ في الحديث مع الطلبة أن الخطاب المعتدل بات منبوذاً وهذا عكس ما كان الوضع عليه في الثمانينيات عندما كنتُ طالباً. في ذلك الزمن، كنتَ تُتّهم بالتخريب من قبل بعض الجمعيات الطلابية والمنظمات العربيّة عندما ترفض المفاوضات مع إسرائيل وتصرّ على تحرير فلسطين. المشروع الصهيوني آيل للسقوط، لا محالة. سيقسط هناك ولن توجد قوة غربية تنقذه. ولن ينقذه لا محمد بن زايد ولا محمد بن سلمان، ولا حتى تركي الشيخ في «ليالي الرياض».