«طوفان الأقصى» في نظر القانون: الاتّهامات المتهافتة

محمد طي – وما يسطرون|

شنّت «سرايا عز الدين القسّام» هجومها على بعض المغتصبات (المستعمرات) المحيطة بغزة وأسرت عدداً من الجنود وقبضت على بعض «المدنيّين» واقتادت الجميع إلى قطاع غزّة. هذا في الواقع المجرّد (أو ما يُسمّى في لغة المحاكم بـ«الوقائع»). يبقى ما يُسمّى بـ«القانون»؛ هنا بدأ «فقهاء» الصهيونيّة وداعموها ومؤيّدوها وبعض الحياديّين يتبارون في توصيف ما جرى، فذهبوا إلى ما يأتي:
– إنّ الهجوم شكّل عملاً إرهابيّاً، من النوع الذي تمارسه «داعش»، ارتكبته حركة «حماس» ضدّ أبرياء.
– إنّ لـ«إسرائيل» الحق في الدفاع عن نفسها.
– إن مقاتلي «حماس» يتّخذون المدنيّين دروعاً بشريّة.

«عمل إرهابيّ»
الإرهاب عمل مسلّح، تقوم به جهة معيّنة متوسّلة بثَّ الذعر بين الناس ضغطاً على حكومة أو منظّمة دوليّة من أجل إجبارها على تحقيق هدف تسعى إليه تلك الجهة. فقد رأى المقرّر الخاصّ المعنيّ بالإرهاب في الأمم المتحّدة أنّ «الإرهاب يشمل تخويف السكّان أو الحكومات أو إكراههم من خلال التهديد أو ارتكاب العنف، وقد يؤدّي إلى الوفاة أو الإصابة الخطيرة أو أخذ الرهائن».
ويرى مجلس الأمن أن تلك الأعمال لا يمكن أن تُبرَّر، فقد جاء في القرار 1566/2004: 3 – «يُشير (مجلس الأمن) إلى أنّ الأعمال الإجراميّة، ولا سيّما تلك الموجّهة ضدّ مدنيّين بقصد التسبّب في الوفاة أو الجروح الخطيرة أو أخذ الرهائن بهدف زرع الرعب بين السكّان أو مجموعة من الناس أو بين أفراد، لتخويف السكّان أو إرغام حكومة أو منظّمة دوليّة على القيام بعمل ما أو الامتناع عن القيام به، وذلك خرقاً للاتفاقيّات والبروتوكولات الدوليّة المتعلّقة بالإرهاب، لا يمكن تبريرها بأيّ حال من الأحوال بأسباب من طبيعة سياسيّة أو فلسفيّة أو أيديولوجيّة أو عرقيّة أو إثنيّة أو دينيّة أو ما شابه ذلك».
إنّ هذا صحيح، لكن بشرط أن يكون الذين تعرّضوا للهجوم هم من المدنيّين الأبرياء. فهل ينطبق هذا الوصف على الذين هاجمتهم سرايا عز الدين القسّام؟

«عمل ضدّ أبرياء»
هاجم مقاتلو «حماس» مناطق قريبة من غزّة، يقيم فيها أشخاص، منهم عسكريّون عاملون، ومنهم عسكريّون احتياطيّون، ومنهم غير عسكريّين. فهل يحظر القانون مهاجمة هؤلاء أو بعضهم؟
العسكريّون مساهمون في حصار غزّة وفي سائر الجرائم الإسرائيليّة ضدّ القطاع، وهم جزء من جيش يحتلّ فلسطين، وغزّة جزء من فلسطين، إذاً تجوز مهاجمتهم ومباغتتهم.
غير العسكريّين (المدنيّون مع التحفّظ)، الذين تعتبرهم «حماس» ضيوفاً، هم في أوضاع متباينة:
– بعضهم أشخاص قدموا من الخارج ليساعدوا، على علم منهم، على احتلال فلسطين وعلى انتزاع أملاك من أصحابها، وبذلك هم مرتكبون لجريمة وليسوا أبرياء.
– وبعضهم الثاني، من وُلد في فلسطين وكان آباؤه أتوا من بلاد أخرى.
– وبعضهم الآخر، من أقليّة ضئيلة، هم من أصل فلسطينيّ.
الفئتان الأخيرتان هما في وضع يجب دراسته.
والجميع يسكنون في منطقة هُجّر أصحابها وملّاكوها من بيوتهم وأملاكهم إلى قطاع غزّة، إذ إنّ الذين طُرِدوا من مناطقهم، في عموم فلسطين، لجأوا إلى المناطق القريبة منها التي لم تكن قد احتُلّت. فيكون بهذا سكّان مخيّمات اللجوء في القطاع هم أصحاب الأرض المحيطة به وملّاكها، والملكيّة من حقوق الإنسان الأساسيّة، وقد كرّسها الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادّة 17 التي تنصّ على أنّ:
1. لكلِّ فرد الحق في التملُّك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.
2. لا يجوز تجريدُ أحدٍ من مُلكه تعسُّفاً.
وقد جُرّد هؤلاء اللاجئون المطرودون من أملاكهم أوّلاً على أيدي العصابات الصهيونيّة الإجراميّة، ثمّ كَرَّست الحكومات الصهيونيّة هذا التجريد، ما يجعله تجريداً غير شرعيّ بالمرّة. وهم اليوم يقيمون على تخوم أرضهم التي يتمتّع المهاجمون بخيراتها.

«دفاع عن النفس»
الدفاع عن النفس حقّ مشروع لكلّ إنسان يتعرّض لاعتداء، إلا أنّ من شروطه أن يكون الاعتداء غير شرعيّ ولم يأت نتيجة استفزاز من قبل من يدّعي الدفاع عن النفس، وهذا يصحّ بالمطلق في القوانين الداخليّة والقانون الدوليّ، ولكنّه مشروط بـ: 1) أن يكون مشروعاً، 2) أن يكون مباشراً، 3) أن لا يكون انتقاميّاً، 4) أن يكون متناسباً مع فعل الاعتداء.
1)أن يكون مشروعاً: هذا يعني ألّا يكون مدّعي الدفاع عن النفس قد اعتدى على الطرف الآخر، أو أثاره بالاستفزاز مثلاً. فإذا كان مدّعي الدفاع عن النفس يرتكب جريمة ضدّ الآخر فللآخر حقّ مشروع في الدفاع عن النفس، وليس للمجرم هنا أن يكمل جريمته بحجّة الدفاع عن النفس.
2) و3) أن يكون مباشراً، بمعنى أن يحصل أثناء حصول الاعتداء لمنعه، ولا يكون متراخياً زمنيّاً، فإذا تأخّر يتحوّل إلى ثأر أو انتقام. الانتقام ليس دفاعاً مشروعاً عن النفس، وليس شرعيّاً في القانون، لأنّه يُعدّ استيفاءً من الشخص لحقّه بالقوّة، فاستيفاء الحقّ يقوم به القضاء لصالح المتضرّر.
4) أن يكون متناسباً مع فعل الاعتداء، فإذا أمكن الردع بالضرب فلا يجوز القتل، فإذا هاجمك شخص لا يحمل أيّ سلاح فليس لك أن تستخدم السلاح إلا للتخويف، أو لأقلّ قدر من الإيذاء يكفي لإيقاف المعتدي عند حدّه.

في القوانين الداخليّة
جاء في قانون العقوبات اللبنانيّ، المادّة 184: «يُعدّ ممارسة حقٍّ، كلّ فعل قضت به ضرورة حاليّة لدفع تعرّض غير محقّ ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه».
وجاء في قانون العقوبات الفرنسيّ، المادة 5- 122: «لا يُسأل جنائيّاً الشخص الذي يكون في مواجهة اعتداء غير مبرّر على نفسه أو على آخرين، يقوم في الوقت نفسه بفعل تقتضيه ضرورة الدفاع عن النفس عن نفسه أو عن الآخرين، ما لم يكن هناك تفاوت بين وسائل الدفاع المستخدم وخطورة الاعتداء».

في القانون الدوليّ
جاء في «مشروع الموادّ» (1) حول مسؤوليّة الدولة، المادّة 21: الدفاع عن النفس – «… يتمّ استبعاد عدم مشروعيّة تصرّفات الدولة إذا كان الفعل يشكّل تدبيراً قانونيّاً للدفاع عن النفس جرى اتّخاذه وفقاً لميثاق الأمم المتّحدة».
المادة 69: «إنّ الدفاع عن النفس يستبعد عدم مشروعيّة أيّ إجراء يتمّ تنفيذه ضمن الحدود التي يفرضها القانون الدوليّ. ويستهدف الإجراء المتّخذ وفقاً لميثاق الأمم المتحدة».
من هنا، فإنّ ما قام به مقاتلو حركة «حماس» ليس خرقاً للقانون، بل هو دفاع عن النفس في مواجهة جرائم إسرائيل، من حصار خانق لقطاع غزّة، ومن هجمات على القطاع، ومن اغتيالات وقتل خارج القانون في الضفة الغربيّة، ومن اضطهاد لفلسطينيّي 1948.
الدروع البشريّة
إنّ قصف المدنيّين والأعيان (الأهداف) المدنيّة محظور في القانون الدوليّ، وهو يُعدّ جريمة حرب. أمّا إذا كان جارياً على نطاق واسع أو منهجيّ موجّه ضدّ أيّ مجموعة من السكّان المدنيّين، وعن علم بالهجوم، فيشكّل جريمة ضدّ الإنسانيّة.
وإذا كان جارياً من أجل القضاء كليّاً أو جزئيّاً على جماعة عرقيّة أو إثنيّة أو دينيّة أو قوميّة، فهو جريمة إبادة جماعة بشريّة Genocide.
هذا الأمر يفرض، بالمقابل، ألّا تُستعمل وسائل القتال انطلاقاً من أماكن التجمّعات المدنيّة أو المساكن أو الأعيان المدنيّة.
هذا ينطبق على حالات الاشتباك، أمّا في غير حالات الاشتباك، فلا يجوز ملاحقة المدنيّين المشاركين في القتال الذين تركوا الاشتباك إلى الأماكن المذكورة. فالمقاتل الشعبيّ، غير الجنديّ النظاميّ، العامل بشكل فرديّ أو المنتمي إلى جماعة مقاتلة، لا يجوز قتاله إلّا في المعركة، لا في مكان سكنه أو عمله، فقد ورد في المادّة 51/3 من البروتوكول الأوّل الملحق باتّفاقيّات جنيف لسنة 1949: «يتمتّع الأشخاص بالحماية الممنوحة بهذا القسم، إلّا إذا اشتركوا مباشرة في الاشتباكات المسلّحة وطيلة مدّة هذا الاشتباك». وجاء في المادّة 29 من توصيات اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر (تشرين الأوّل 2010): «يكون المدنيّون الذين يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائيّة – سواء بشكل فرديّ أو كجزء من مجموعة – أهدافاً مشروعة للهجوم، ولكن طوال مدّة تلك المشاركة فقط» (2).
وورد في الفقه الدوليّ ما يؤكّد ذلك. فقد ورد في موسوعة «قانون في الحرب؟»: «يفقد المدنيّون حمايتهم من الهجمات وآثار الأعمال العدائيّة فقط إذا شاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائيّة وطوال مدّة تلك المشاركة». وهذا الأمر يسري، كما تؤكّد الموسوعة، سواء أفي النزاعات المسلّحة الدوليّة أم في النزاعات المسلّحة غير الدوليّة (3).
بداية ونهاية المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية: «تُعدّ التدابير التحضيريّة لتنفيذ عمل محدّد من أعمال المشاركة المباشرة في الأعمال العدائيّة، وكذلك الانتشار في مكان تنفيذه والعودة من هذا المكان، جزءاً لا يتجزّأ من هذا العمل». إذاً، لا يجوز استهداف المقاتلين الشعبيّين إلّا بدءاً من القيام بالتدابير التحضيريّة للعمل العسكريّ حتّى ترك مكان الاشتباك» (التوصية السادسة).

وهكذا تتوقّف حماية المدنيّين من الهجمات المباشرة طوال مدّة كلّ عمل محدّد يشكّل مشاركة مباشرة في الأعمال العدائيّة. ومن ناحية أخرى، فإنّ أعضاء الجماعات المسلّحة المنظّمة المنتمين إلى طرف من غير الدول في نزاع مسلّح، يتوقّفون عن كونهم مدنيّين… وبالتالي يفقدون ميزة الحصانة ضدّ الهجمات المباشرة – طالما أنّهم يقومون بوظيفتهم القتاليّة المستمرّة» (التوصية السابعة). أمّا قبلها وبعدها فهم مدنيّون يتمتّعون بالحصانة ضدّ الهجمات.
«عندما يتوقّف المدنيّون عن المشاركة بشكل مباشر في الأعمال العدائيّة، أو عندما يتوقّف أعضاء الجماعات المسلّحة المنظّمة المنتمون إلى طرف من غير الدول في نزاع مسلّح عن القيام بمهمّتهم القتاليّة المستمرّة، فإنّهم يعودون إلى الاستفادة من الحماية الكاملة الممنوحة للمدنيّين ضدّ الهجمات المباشرة». ولا يُلاحقون إلّا إذا كانوا ارتكبوا جرائم بموجب القانون الدوليّ أو الداخليّ، إذ يضيف الدليل: «لكنّهم يعفون من الملاحقة القضائيّة بسبب انتهاكات القانون المحلّيّ أو القانون الدوليّ التي ربّما يكونون قد ارتكبوها» (التوصية العاشرة).
من هنا، فإنّه لا يُعدّ تترّساً بالمدنيّين (أي اتّخاذهم دروعاً بشريّة) أن يذهب المقاتل إلى مكان إقامته أو عمله وسط الناس، بعد نهاية المعركة أو تركه القتال. هذا الأمر لا يقيم له العدوّ أيّ اعتبار، فيلاحق المقاتلين بالاغتيالات في غزّة، وفي فلسطين عامّةً، وخارجها في أنحاء العالم.

التناسب
لا يجوز تجاهل مبدأ التناسب في جميع أحوال القتال، فالقانون الدوليّ الإنساني يحظر (م 51/4 من البروتوكول الأوّل وم29 من توصيات الصليب الأحمر) الهجمات العشوائيّة ويفرض مبدأ التناسب، والذي بموجبه ينبغي ألّا تكون الخسائر العرضيّة في الأرواح بين السكّان المدنيّين و/أو الأضرار التي تلحق بالأعيان المدنيّة مفرطة مقارنة بالميزة العسكريّة الملموسة والمتوقّعة بشكل مباشر (4). فقد ورد في المادّة 21 من مشروع الموادّ حول مسؤولية الدولة:
«إنّ الإجراء المتّخذ (للدفاع عن النفس يجب أن) يحترم شروط التناسب والضرورة المتأصّلة في مفهوم الدفاع عن النفس».
التدابير المضادّة Les contre-mesures (ou représailles): التدابير المضادّة هي تدابير تتخذها دولة تعرّضت للأذى، ضدّ الدولة المسؤولة عن هذا الأذى، ويكون هدفها أن تبرز الدولة المعتدى عليها حقوقها، وأن تحاول أن تعيد العلاقات القانونيّة مع الدولة المعتدية، التي قُطعت بالفعل غير المشروع دوليّاً.
هذه التدابير، كي تكون مقبولة قانوناً، يجب أن تُقيّد بعدد من القيود ومنها:
– أن تكون ردّة فعل على فعل غير شرعيّ ارتكبته دولة أخرى.
– أن يكون هدفه الحصول على وقف العمل الضارّ والتعويض (5).
– أن يكون متناسباً مع الضرر، أخذاً في الحسبان خطورة الفعل المحظور دوليّاً، والحقوق المتأثّرة به» (6).
هذه القاعدة معترف بها على نطاق واسع في ممارسات الدول، وفي الفقه والاجتهاد القانونيّين.
«[هـ] حتى لو اعترف المرء بأنّ قانون الشعوب لا يتطلّب قياس الأعمال الانتقاميّة تقريباً بالنسبة للجريمة، يجب علينا بالتأكيد أن تكون الأعمال الانتقامية غير مفرطة، فتصبح غير مشروعة، إذا لم تتناسب على الإطلاق مع الفعل الذي حفّزها» (7).
وعلى فرض أن أصبح الناس دروعاً بشريّة دون قصد، فلا يجوز التمادي في قتلهم. فيمكن أن يصبح الهجوم غير قانونيّ إذا كانت الخسائر في الأرواح أو الإصابات التي من المحتمل أن تحدث عرضاً بين الدروع البشريّة غير الإراديّة مفرطة مقارنة بالميزة العسكريّة الملموسة والمباشرة المتوقّعة من الهجوم على الهدف العسكريّ أو المقاتلين المعنيّين (8).
من هنا، فإنّ ما يقوم به العدوّ الصهيونيّ في غزّة، حتى لو عدّه بعضهم دفاعاً عن النفس، فهو يتجاوز بما لا يقاس الفعل الذي استثاره.

الخلاصة
– إنّ هجوم «سرايا عز الدين القسّام» في 7 تشرين الأوّل ليس عملاً إرهابيّاً بل هو دفاع عن النفس في وجه اعتداء مستمرّ ومتمادٍ، يُرتكب في غزّة وفي كامل الأرض الفلسطينيّة.
– إنّ العدوّ الصهيونيّ لا يمتلك الحقّ في الدفاع عن النفس لأنّه هو المبادر إلى الاعتداء.
– إنّ ما يقوم به العدوّ يخرق بشكل فظيع ما يدّعيه من الدفاع عن النفس.
– إنّ العدوّ الصهيونيّ لا يملك الحقّ في أن يتّخذ تدابير مضادّة، لأنّه هو المعتدي، واستطراداً ليس له الحقّ في أن يلجأ إلى أعمال ثأر تتجاوز بما لا يقاس الفعل الذي دفعه لاتّخاذ التدابير المضادّة.
– إنّ أفعال العدوّ أعمال عدوانيّة تشكّل أخطر الجرائم المعروفة في القانون الدوليّ.

قد يعجبك ايضا