التمويل الأوروبي لفلسطين: تعاون أم تواطؤ؟
طاهر اللبدي – وما يسطرون|
منذ 7 أكتوبر، كثرت التصريحات حول تجميد ومراجعة وتعزيز «المساعدات» المقدّمة للفلسطينيين، ومرة أخرى أصبح السلاح المالي هو الأساس لاستجابة أوروبا لـ«تفاقم الصراع في الشرق الأوسط»، إلى جانب التصريحات العامة حول «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وعلى الرغم من أن استدامة هذه «المساعدات» ليست محل شك في الوقت الحالي، فإن تشديد الشروط وتأجيل بعض النفقات يثيران القلق عند البعض في رام الله، والغضب عند البعض الآخر. وتتضاعف النقاشات حول كيفية الرد لدى الجانب الفلسطيني، في حين تتصاعد الدعوات لمقاطعة أوروبا على المستوى الإقليمي. ويكشف هذا التصعيد عن إخفاقات التعاون الأوروبي، الذي وقع في فخّ منطق «الحرب على الإرهاب».
1-التمويل كأداة للنفوذ السياسي في فلسطين
كانت السيطرة على وصول الأموال إلى الفلسطينيين قضية مثيرة في زمن الانتداب البريطاني، إذ بينما كانت المنظمات الصهيونية تستفيد من التبرعات المالية الكبيرة التي توفّرها المجموعات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة، كانت القوات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في المناطق العربية المجاورة الخاضعة لسيطرتها تقمع جمع الأموال التي تُقدّم لدعم النضال الفلسطيني. ومن جهة أخرى، كانت إدارة الانتداب تحاول وقف موجة العمل الثوري من خلال «مساعدة» الفلاحين الفلسطينيين الذين حرمهم الاستيطان الصهيوني من أراضيهم، من دون فعّالية كبيرة في هذا الصدد.
بعد النكبة عام 1948، أصبحت «الأونروا» القناة الرئيسية للمساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين في المخيمات حتى «عودتهم إلى وطنهم»، وكانت الولايات المتحدة تُعد أكبر مانح لهذه المساعدات حتى سبعينيات القرن العشرين – تفوّقت عليها أوروبا تدريجياً – وذلك في محاولة منها لوقف انتشار الشيوعية أولاً، ثم القومية، والفكر الإسلامي بين الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، وجدت مجموعات الكفاح الفلسطينية التي تشكّلت في المنفى في الستينيات، دعماً مالياً من الحكومات والجهات الخاصة العربية والإسلامية. وبعد عام 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، تم توجيه جزء من هذه الأموال إلى تلك المناطق لدعم الصمود بوجه الاستعمار الإسرائيلي ومحاربة مصادرة الأراضي.
في أواخر السبعينيات، أطلقت «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID) برنامجاً مخصّصاً لتحسين الرفاهية ونوعية الحياة في الأراضي المحتلة، وكان الهدف هذه المرة هو كسر نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية وحث الناس على دعم الاتفاق حول الحكم الذاتي الفلسطيني المحدود، الموقّع في كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر. وكانت الخلفية السياسية لهذه المساعدات مكشوفة لدى المجتمع الفلسطيني آنذاك، وقوبلت باستنكار واسع. إلا أن مواقف منظمة التحرير الفلسطينية تغيّرت نحو قبول الحكم الذاتي الانتقالي ضمن حدود عام 1967، والاعتراف
بدولة إسرائيل، والتخلي عن الكفاح المسلح، وذلك بسبب تطور السياق الجيوسياسي العالمي خلال الثمانينيات، وفقدان داعميها السياسيين والماليين العرب.
2-دعم السلام من خلال إخفاء الاحتلال الإسرائيلي
في بداية التسعينيات، دخل، لأول مرة، التمويلُ الأوروبي الذي يُدفع مباشرة للفلسطينيين، ضمن ما يُسمى التزام المجتمع الدولي بتقديم الدعم المالي لـ«عملية السلام» المنصوص عليها في اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وكان الهدف المعلن لهذا الدعم هو جعل «مكاسب السلام» ملموسة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني – الذي خرج للتو من الانتفاضة الأولى – وذلك من خلال الدفع باتجاه التنمية الاقتصادية. وأصبح الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء هم الجهات المانحة الرئيسية إلى حد بعيد. ويُعد هذا التمويل جزءاً مهماً من السياسة الخارجية الأوروبية التي تهدف إلى تعزيز الأمن والديموقراطية والحكم الرشيد ضمن أطر «الشراكة الأورومتوسطية» أو «الشراكة من أجل السلام» أو «سياسة الجوار الأوروبية».
تشير التقديرات إلى أن الأراضي المحتلة تلقّت 46.4 مليار دولار من المساعدات التنموية بين عامَي 1993 و2020، نصفها تقريباً من أوروبا. فبالإضافة إلى دعم نفقات موازنة السلطة الفلسطينية (رواتب الموظفين، وتكاليف الصحة، ومساعدات اجتماعية واقتصادية)، يغطي هذا التمويل مجموعة من البرامج، بدءاً من تشييد البنية التحتية والمباني العامة وحتى المساعدات الإنسانية، فضلاً عن الإصلاح المؤسساتي وتمكين المرأة والشباب ودعم القطاع الخاص. وإذا كان الدافع وراء هذه المساعدات في البداية هو احتمال التوصل إلى سلام وشيك، فإنها سرعان ما أصبحت مجرد ستار من الدخان للتغطية على فشل «حل الدولتين» ومسكن هزيل ضد الانهيار الاقتصادي الفلسطيني.
في الحقيقة، إن ما يسمى بعملية السلام لم يضع حداً للاحتلال الإسرائيلي، بل إن الاستيطان قد تسارع. وكانت الصلاحيات الضئيلة التي تتمتع بها السلطة الفلسطينية تُنتهك باستمرار على الأرض من قبل الإدارة الإسرائيلية التي تسيطر في نهاية المطاف على الأنظمة التجارية والنقدية والمالية، فضلاً عن سيطرتها على الحدود ومعظم الأراضي. دفعت الانتفاضة الثانية عام 2000 العديد من المراقبين إلى إدانة خمول الموقف لدى الجهات المانحة، وخاصة الاتحاد الأوروبي، الذي خدمت مساعداته تمويل التوسع الإسرائيلي على حساب القانون الدولي وأي حل سياسي. ولم تتمكن أوروبا حتى من منع جيش الاحتلال من التدمير المنتظم للمؤسسات والبنية التحتية التي تموّلها، ما يجعل دافعي الضرائب الأوروبيين يتحمّلون تكلفة هذا الهدر الذي لا حدود له. ومع ذلك، فإن هدف وجود التمويل الأوروبي سوف يظل دون تغيير، وسوف يستمر في التزايد مع كل تصعيد جديد في الصراع.
3-أداة للهندسة السياسية والاجتماعية
مع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي وأعضاءه لا يتردّدون في فرض شروط على المساعدات المقدّمة للفلسطينيين في مناسبات عديدة وبطرق مختلفة. والمثال الأكثر رمزية – والأكثر إثارة للجدل – هو المرتبط بالعقوبات الإسرائيلية والدولية التي فُرضت بعد فوز «حماس» في الانتخابات في عام 2006. فقد جمّدت أوروبا على الفور مساعداتها للميزانية فضلاً عن أي مشروع مع الحكومة الفلسطينية وركّزت جهودها على الاستجابة للاحتياجات الإنسانية البحتة. وتم إنشاء آلية مساعدة جديدة تدعو القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية لتحل محل السلطة الفلسطينية. وأدّت هذه المقاطعة الدبلوماسية والمالية إلى أزمة سياسية غير مسبوقة وتصلّب في الانقسامات الداخلية بين الفلسطينيين. وقد باءت عدّة محاولات لتحقيق الوحدة الوطنية بالفشل.
وفي حزيران 2007، سيطرت «حماس» على قطاع غزة بالقوة، في حين أقصاها الرئيس محمود عباس من الحكومة في الضفة الغربية. وأعلنت الإدارة الإسرائيلية على الفور أن قطاع غزة «منطقة معادية» وشدّدت القيود على حركة الأشخاص والبضائع على حدودها. وفُرض حصار بري وبحري وجوي مستمر منذ ذلك الحين. ولا تزال المساعدات الطارئة مستمرة، إلا أنه طُلب من الوكالات الدولية الإنسانية الموجودة في الميدان وقف جميع علاقاتها مع السلطات المحلية. بالمقابل، وعلى الأرض، تحافظ هذه الوكالات على شكل من أشكال التنسيق لتنفيذ برامجها من خلال ترتيبات تتم إعادة التفاوض بشأنها باستمرار. وقد سارعت العديد من هذه الوكالات إلى إدانة هذا الوضع باعتباره ممارسة غير فعّالة وغير كافية.
وفي الوقت ذاته، تم تفعيل آلية تمويل جديدة (بيغاس) في أوائل عام 2008 من قبل الاتحاد الأوروبي، بهدف دعم «خطة الإصلاح والتنمية» التي وضعتها حكومة سلام فياض في الضفة الغربية. كان فياض موظفاً سابقاً في صندوق النقد الدولي، وقد نجح في الاستجابة لمتطلبات المانحين بشكل كامل من خلال جعل تطوير النظام المصرفي والمالي، وزيادة الضرائب وتعزيز القطاع الخاص من أولوياته. كما ويُعد تعزيز الأمن الداخلي عنصراً أساسياً أيضاً، بغرض خلق بيئة مؤاتية للمستثمرين. ومع ذلك، لم يتم تحقيق أي شيء لتعزيز الاستقلالية السياسية أو حتى للحد من التبعية الاقتصادية الفلسطينية لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، تتيح آلية بيغاس رقابة أكثر صرامة على النفقات الفلسطينية بما يتماشى مع المتطلبات الإسرائيلية والأوروبية للشفافية والحكم الرشيد و«مكافحة الإرهاب».
4-تزايد الارتهان الفلسطيني للتمويل الأجنبي
لقد تم ربط قطاعات متزايدة من المجتمع الفلسطيني على مر السنين باقتصاد المساعدات. ففي فلسطين المحتلة، وخاصة الضفة الغربية، يوجد مجتمع كثيف من المنظمات الأجنبية والوكالات الدولية والمنظمات غير الحكومية المحلية والمؤسسات المالية والمستشارين من القطاع الخاص العاملين في مجالات التنمية والحكم الرشيد والمساعدة الإنسانية. وأدّى تراجع الجهاز الإنتاجي الفلسطيني وتدفق الأموال الأجنبية إلى جعل السلطة الفلسطينية فاعلاً اقتصادياً رئيسياً حيث تعتمد العديد من الأسر على الرواتب والمعاشات التي تدفعها. وفي عام 2021، وصل عدد موظفي القطاع العام إلى 208 آلاف، أي 21% من القوى العاملة النشطة.
بالتالي، تشكل المساعدات ريعاً كبيراً بما يكفي لإحداث تأثير في البرامج والأنشطة والأجندات للعديد من المستفيدين، يتمثل في تحريف مضمونها السياسي. وهذا يفسر إلى حد كبير اندفاع السلطة الفلسطينية للمضي قدماً في الإجراءات الهادفة «لإصلاح» مؤسساتها وإقامة اقتصاد سوق «متوازن»، في حين تقلصت الأراضي التي تمارس عليها حكمها. وبينما تتزايد الدعوات الفلسطينية إلى الانفكاك عن الاقتصاد الاستعماري الإسرائيلي وأنماط إنتاجه، فإن الاعتماد على التمويل الأجنبي يأتي أيضاً في صلب الاهتمامات. وبسبب الحفاظ على أهدافها المتمثلة في بناء السلام والتحرر الاقتصادي، فإن المساعدات لا تبدو غير فعّالة فحسب، بل تساهم كذلك في كسر الصمود وزيادة التبعية للاقتصاد وللمجتمع الفلسطينييْن تحت الاحتلال.
5-نحو إعادة النظر في أهداف المساعدات الأوروبية
اعتباراً من 7 أكتوبر، جمّدت بعض الدول الأوروبية برامجها لتجنب «تمويل الإرهاب»، في حين قامت دول أخرى بتعزيز ميزانياتها للتعامل مع «الأزمة الإنسانية» في قطاع غزة. لذلك ربما لن يتأثر الكم، بل التوجه وقنوات المساعدة، من حيث التسيير والتحكم الأكثر إحكاماً. إن هذا التماهي المتسارع بين «أهداف التنمية والسلام» والممارسات الإسرائيلية المتعلقة بـ«الحفاظ على الأمن» يوضح صورة الفخ الذي يقع فيه التعاون الأوروبي في الأراضي المحتلة. ومع ذلك، فإن إدارة ودفع فاتورة التداعيات الجانبية للحرب والاحتلال والاستيطان لا ينبغي أن يكونا خياراً بعد الآن.
بغضّ النظر عن حجم الأموال التي تنفقها أوروبا، إلا أنها ستجد نفسها دائماً في خلاف مع أبسط التطلعات الفلسطينية ما لم تتخذ إجراءات جادة لوقف التوسع الاستعماري الإسرائيلي. ومن المؤكد أنه دائماً سيكون هناك منتفعون محليون على استعداد لتولي الدور الذي ترسمه الجهات المانحة لهم، بل وحتى استغلاله، ولكن فشل هذه الإستراتيجية واضح ويشرح نفسه، إضافة إلى أن الخسائر الكبيرة في الأرواح البشرية تحتم تصحيح هذا المسار. يتم الآن التعبير عن التطلعات الفلسطينية بقوة أكبر من أي وقت مضى، وقد أصبح الصدع واضحاً، حيث يتحدث البعض عن مقاطعة الشراكات والتمويل الأوروبي بالفعل. فمن أجل أن تكون المساعدات يد العون حقاً، عليها ألا تكون أبداً أداة مساهمة في الجرائم المرتكبة ضد شعب بأكمله.