قصّة «حلّ الدولتين»
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول الماضي، والتي فاجأت، حتى الهزيمة والضياع، سلطة وأجهزة وجيش العدو وحماته، انطلقت حملة، لا تزال مستمرة (حتى نفاد الغرض والكمّية)، تحت عنوان: حل المشكلة الفلسطينية يتمثّل في «حل الدولتين». كالعادة، قائد الأوركسترا (رئيس أميركا) هو الذي أطلق الصافرة. كرّر الشعار جميع الأتباع من: الاتحاد الأوروبي إلى قمم الرياض إلى… «نداء الوطن»! بدأ الأمر، كما لو أن الفلسطينيين أو العرب (بالجملة)، هم من كان يعرقل تطبيق قرار الأمم المتحدة (الذي يدين له كيان العدو بشرعيته الدولية التي اقتنصها بتدبير من «الحلفاء» المستعمرين وبغفلة مريبة من الاتحاد السوفياتي) منذ صدوره قبل 76 سنة (29 تشرين الثاني 1947) إلى يومنا هذا.
تبرز مفارقات كثيرة وعجيبة في هذا الصدد:
أُولاها، ما يتصل بالجهة نفسها، الإدارة الأميركية، التي استحضرت، بسرعة البرق، هذا القرار إلى حيز التداول. واشنطن لعبت دائماً دور «الوسيط» السوبر، وشبه المنفرد (وحتى «النزيه»!) في الأزمة الفلسطينية. الذريعة أنها الوحيدة القادرة على ممارسة الضغط على إسرائيل (بدءاً من السادات: 99/100 من الأوراق في يد واشنطن).
الإدارات الأميركية المتعاقبة أطاحت، من خلال قراراتها وإجراءاتها، وخصوصاً في عهد الرئيس دونالد ترامب، بكل ذلك القرار ومرتكزاته، لمصلحة مشروع «صفقة القرن». وهو مشروع هيمنة مشتركة أميركية-إسرائيلية، ليس على فلسطين فحسب، بل على كامل منطقة «الشرق الأوسط». ترامب هو الذي اتّخذ قرارات نقل السفارة الأميركية إلى القدس بزعمها (إسرائيلياً) العاصمة الموحَّدة للكيان الصهيوني. وهو أضاف إلى ذلك، الاعتراف بـ«يهودية الدولة» العبرية، ملغياً التمثيل الفلسطيني في بلاده، ومضيفاً إلى كل ذلك الاعتراف بضمّ الجولان المحتل إلى دولة العدو. رغم المبالغات والمظاهر الشكلية، كان قرار ترامب، في العمق، «تطويراً» سلبياً للموقف والدور الأميركيَّيْن. يؤكد ذلك، أن إدارة بايدن لم تلغ أياً من قرارات ترامب بشأن القدس وطبيعة الدولة المغتصبة، ولا بشأن الجولان، ما أضفى على تلك القرارات شرعية أميركية إضافية من خلال موافقة الحزبيْن الأميركيَّيْن اللذيْن يتناوبان، حصرياً، على حكم الولايات المتحدة الأميركية، حتى قيام الساعة!
المفارقة الثانية، أنه بعد أن تأجّل في «أوسلو» بحث مسائل كبيرة من نوع مصير القدس، وحق العودة، والمستوطنات، ألغت القيادة الإسرائيلية كل المفاوضات بذريعة عدم وجود «مفاوض» فلسطيني: أي ذاك الذي يبصم على تفرّد الصهاينة باحتلال وإدارة كل الشؤون الأساسية في كل فلسطين. أمعنت تلك القيادة في القمع والمنع والاستيطان وتقطيع أوصال «المناطق»، مع ما يتصل بذلك من سرقة الأراضي والطرد والاعتقالات والاغتيالات، في امتداد كل ذلك تولى بايدن مباشرة، ومعه إدارته، تطوير حملة صاخبة لفرض «التطبيع» على عدد متزايد من البلدان العربية التابعة لواشنطن: فكانت الاتفاقيات التطبيعية «الإبراهيمية»، وآخرها وأخطرها مع المملكة العربية السعودية، وكانت، بالتالي، عملية «طوفان الأقصى» قبل شهر ونصف شهر تقريباً.
المفارقة الثالثة، أنه رغم امتثال كل «أصدقاء» الولايات المتحدة لصافرتها الأخيرة لجهة المطالبة بـ«حل الدولتين»، لم يصدر أي موقف مشابه عن حكومة إسرائيل. على العكس من ذلك، رفع رئيس حكومتها، شعار «إعادة رسم» خريطة الشرق الأوسط، ليس بإضافة دولة فلسطينية، بل بشطب كل شعب فلسطين وتهجيره: ليس من غزة وحدها، بل من الضفة التي تنتظر مصيراً مشابهاً للقطاع إذا ما نجحت الخطة المجرمة الجاري تنفيذها، حالياً، في غزة، وبدور إرهابي كبير لعصابات وقطعان المستوطنين. أمّا واشنطن، فتتولى توفير شروط نجاح خطة نتنياهو وفريقه: من خلال الدعم السياسي، والمشاركة في القرارات، وتقديم مساعدات هائلة: تسليحاً وتمويلاً، ودائماً من خلال التغطية على الجرائم وتبريرها، بما في ذلك الحصار القاتل، واستهداف كل الجهاز الصحي، ونشاطات مراكز الأمم المتحدة (التي بات أمينها العام، علناً، على لائحة الغضب، وربما الاغتيال الصهيوني!). لم نصل بعد، إلى المتطلّبات «الشكلية» الضرورية حتماً، لتأكيد مصداقية واشنطن، في تبنيها فعلياً لـ«حل الدولتين»، من نوع مطالبة الحكومة الإسرائيلية بإعلان تبني شعار «الدولتين» هذا، وأن تكفّ عن القتل والتهجير، ثم أن تبادر واشنطن، إلى سحب الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة موحّدة لدولة العدو. كل ذلك يؤكد أن شعار «حل الدولتين» قد استُحضر للخداع والتضليل وتغطية الجرائم البربرية التي كشفت واشنطن، مرة جديدة، منحازةً ومجرمةً وعدوّة.
المفارقة الرابعة، أنه رغم بؤس وهشاشة الوضع العربي، وعمالة عدد من حكامه، فقد رفض العرب (على الصعيد الشعبي عموماً)، المشروع الصهيوني في فلسطين، بهذه الوسيلة أو تلك، من الوسائل السياسية وحتى العسكرية. لكنّ رفضهم كان موجّهاً ضد قيام دولة صهيونية، ولم يكن موجّهاً ضد حل «الدولتين» في حدِّ ذاته. أمّا من حالَ دون تطبيق حل الدولتين، قديماً وحديثاً، فهم الصهاينة وحماتهم أنفسهم. وكانت في خدمة ذلك، محطات دم وعدوان ومجازر: حرب السويس عام 1956، حرب الأيام الستة عام 1967، وحرب أكتوبر عام 1973، زيارة السادات للقدس والمعاهدة المصرية – الإسرائيلية عام 1978، حرب لبنان وغزوه عام 1982 وعام 2006، وفي السياق، توقيع اتفاقيات «وادي عربة» و«أوسلو» و«فك الارتباط» في مطالع التسعينيات، وصولاً إلى الاتفاقيات التصفوية «الإبراهيمية».
المفارقة الخامسة، أنّ أولئك الذين لا يطلبون من إسرائيل مجرد وقف إطلاق نار، أو «تخفيف» الخسائر بين المدنيين، وأولئك الذين لا يستطيعون فرض ذلك، إذا حسُنت النيات، لن يتمكنوا، حكماً، من فرض «حل الدولتين». إنّ غالبية المواقف و«القمم» القديمة والجديدة، هي لحفظ ماء الوجه ورفع العتب. وإلا لماذا لم تُتخذ خطوات ضاغطة على الصهاينة وواشنطن، لوقف إطلاق النار، وفك الحصار ووقف المجزرة، وذلك عبر خطوات من نوع تجميد العلاقات والتطبيع، أو سحب السفراء، أو حتى مجرد التهديد بذلك؟ إنّ «حل الدولتين» يصبح ممكناً، فقط، في سياق عملية ردع، بالموقف وبالمقاومة وبالإجراءات، أي في سياق فرض مسار تراجعي على المشروع الصهيوني، سيؤدي، بالضرورة، إلى أفوله نهائياً.
أما المفارقة الكبرى، فتتمثّل في أن إسرائيل التي توسّلت (بالخداع والمجازر والدعم الاستعماري) «حل الدولتين» من أجل قيامها، تتوسّل، منذ ذلك التاريخ، رفض ذلك الحل في خدمة توسّعها: لاحتلال كل فلسطين، بأكثر الوسائل بربرية وعنصرية، ودائماً، في كنف مشروع الهيمنة الأميركي الاستعماري، وبرعايته.