بالدم والسّلاح والدموع: غزّة تنشُر الوعي وتُبشّرُ بالنّصر
خالد بركات – وما يسطرون|
يعجز العدوّ الصهيوني وحلفاؤه، ومعهم النظام العربي الرسمي المهزوم، على فهم المعادلة/المعجزة التي صنعتها فلسطين فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول، من بوابة القطاع الباسل. لن يفهموا إرادة مقاومة فلسطينية عنيدة جرى تطعيمها بالنار، وشعب محاصر منذ 17 عاماً ونيّف. لم يصغوا لصوت غزة حين أعلنت قيادة المقاومة، قبل نحو عام، أنها لن تصمت على جرائم العدو. وقالت: «آتون بطوفان هادر»، الشعار المركزي لـ«كتائب عزّ الدين القسّام» وعنوان الكلمة التي ألقاها القائد أبو خالد الضيف في كانون الثاني/ديسمبر 2022. وجاء «الطوفان» هادراً وجارفاً، يسحق جنود العدوّ وقطعان المستعمرين الصهاينة. هذه حقيقة مؤكّدة حفرت نفسها كالوشم الأبدي في جدار التاريخ والذاكرة. ولن يستطيع العدو الصهيوني محو ذكرها مهما ارتكب من جرائم ومجازر وحشية.
كهلٌ جريح وقف أمام ركام بيته وقال: «غزّة دواء العرب، غزّة دواء البشر»؛ هذا العجوز خرج من تحت الركام ليواصل فكرته تحت القصف: «هذه أمة عربيّة مريضة، مريضة، نحن الآن نعالجها»… ومضى.
وقالت امرأة تحمل طفلة: «نتبرّع بالدم للعالم كي لا تموت الكرامة في عروقه». فالقلعة الفلسطينية على الساحل تنشر الوعي وتبشّر بالنّصر، تحرم العدوّ من انتزاع صورة زهو واحدة، صورة واحدة يمكنه أن يلتقطها ولو على عجل، يهرب ويستر بها عورته وعجزه وهزيمته أمام جمهوره وأمام رعاة مشروعه. نعم، لا أحد يحب الهزيمة، وقد هُزِم.
وقال «س» وهو يُنظّف سلاحه: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ» (سورة الأعراف: 133)
تستعيد فلسطين، من غزّة الباسلة، اسمها الأول، تَحوكه بإبرة السلاح والبارود من أذرع المقاتلين وأحزمة البؤس والفقر، وتحرّض العرب والمسلمين والعالم، تذكّرهم بأنها القضية المركزية والكبرى. كأنها تقول: من هنا الطريق إلى النّصر، من هنا الطريق إلى القدس، هنا معركتكم. ميدانكم الصحيح. وفي وسعكم أن تختبروا ذلك ولو بدمنا. وأن تعرفوا إذا كنتم أحياء، أو موتى بلا قبور. هل ترون كل هذا الموت؟ هذا الدمار؟ هذا الجوع؟ هذه الجثامين الصغيرة؟ الآن – بعد أن رأيتم وعرفتم – فماذا أنتم فاعلون؟
وتنشر غزّة الأنوار في مواجهة الظلام. ترفع قبضتها وكفَّيها رايات للحرية والبسالة والوضوح في مواجهة الظلم والجبن والضبابية، وقد كتب الشهيد غسّان كنفاني ذات يوم عن أعمى ظل يسير تائهاً في الطريق، ثم فجأة استعاد نظره، فإذا كان حراً، حرّر وعيه، وصار في وسعه أن يختار طريقه ويمضي واثقاً إلى الهدف. لن يخدعه الدليل الكاذب.
في غزّة تنفجر الفجيعة والبطولة معاً دفعة واحدة. من أشلاء طفولة عربية ممزّقة تشهد على جريمة الدول والعواصم الكبيرة. تنفجر الفجيعة والبطولة في روح الناس، من عيون وسواعد المسعفين والعمّال والصيادين، من الأكف المُغبرة النازفة التي تحفُر تحت الأنقاض لإنقاذ الإنسانية المقبورة في خزانات الصمت والأمم المتحدة. وحيث تسقط كل الأقنعة، تسقط الدول أمام كبرياء طفلة جريحة تنزف وتطلب من الطبيب أن يعالج أختها أولاً. هكذا، بالدم والسلاح تقاتل غزّة، وتُغيّر العالم.
إنها الأصابع والأظْفار الغزية ذاتها التي حفرت 700 كلم من الأنفاق/ المعجزة تحت الأرض لتحمي المقاومة وتحفظها. الأظْفار النارية الطويلة التي تخدش وجه «تل أبيب» و«إيلات» كلما بكى أطفال فلسطين. فالعلاقة بين الحاضنة الشعبية والمقاومة المسلّحة علاقة اللحم والدم في الجسد الواحد. فلا فكاك ولا طلاق بينهما، وأيّ محاولة للفصل بين الشعب والمقاومة، ينفجر النزيف الفلسطيني الحار على الفور، ويولد الصراخ -والصاروخ- في لحظة واحدة. في ثانية واحدة، ويولد من يحملون «الياسين» يدمّرون دبابات العدو وجرافاته وجنوده. تقذفهم فلسطين من رحمها، من الأرض، مع ثيابهم التي تفوح منها رائحة البارود والخبز، ينشرون الألم والأمل. بالموت يحرسون كرامة فلسطين.
الأسئلة تنفجر في غزّة أيضاً. تأتي مع الموت. من فوق الأنقاض وتحتها، هذا صراخ محموم من حناجر عطشى ومجروحة ومعذّبة، غير أنها لا تتعب من النداء. تفتش عن بقية حياة بين الغبار والباطون والحديد. وتنادي: «في حدا هان؟ في حدا هان؟» وتنتظر كي يأتي الجواب من الأرض.
تنادي فلسطين على أمّتها العربيّة ولا تطلب الشفقة من أحد: أَوَلستم بشراً مثلنا؟ أولسنا بشراً مثلكم؟ أين العرب؟ هل ماتوا؟ أين الدول؟ أين كرامتكم؟ شهامتكم؟ عروبتكم؟ دينكم؟ أين الإنسانية؟ أين ولدي؟ أين طفلتي؟ لماذا يرعبكم صهيوني جبان تدوسه أقدام المقاومة وتطحن دبابته الآن؟ لِم كل هذا العجز في عروقكم؟ كيف استوطن الصدأ والزبل والقيح حناجركم؟ كل هذا النفط العربي ولا نقطة وقود واحدة في مستشفيات غزّة؟ كل هذه الأنهار ولا نقطة ماء واحدة؟ لا تسأل غزة لأنها لا تعرف الجواب، بل لأنها تعلّم الشعوب درساً في الأخلاق، وفي معنى: أن تكون إنساناً.
خيوط الصبر والنصر والفجر. تنبلج في صلاة وصمود غزة. فالشجاعة صارت القاعدة وليس الاستثناء، والبطولة عدوى تنتشر في قطاع محاصر. وهذا جيش فلسطين الباسل، كتائبه من النساء والرجال والأطفال والطلبة والأطباء والعمال والمزارعين والصحافيين والصيادين والفدائيين والملائكة، يعبرون ألف كربلاء كل ساعة، هذا جيش فلسطين يدرّب الشعوب على التمرد والوعي الثوري ويبني رؤية للمستقبل، ويعيد ترتيب فصول الرواية الفلسطينية من جديد.
إنّ النصر ممكن وآتٍ لا محالة، تقول البلاد. ومع ضحاياها الذين تدفنهم في قبور جماعية وتبكيهم، تدفن الوعي الزائف الذي تصنعه خفافيش الظلام وأدوات الأنظمة وإعلام الفرعون المهزوم في القاهرة. وتهدم الأصنام والأوهام، وتوصي الشباب العربي: لا تذهبوا إلى المعارك الخطأ. لا تبيعوا دماءكم للنفط، لا تكونوا حطباً في الحروب الصغيرة التافهة، هنا معركتكم الحقيقية. ساحة الجهاد والبوصلة التي لا تكذب. هنا حربكم الكبرى التي تبني طريق النهضة، التنمية، الاستقلال الوطني، الحرية… من هنا تبدأ.
الشعوب التي خرجت في كل القارات إلى الشوارع والميادين والساحات في مدن وعواصم العالم لم تكن حرة، كانت تبدو كأنها دخلت حالة موت سريري وضميري قبل يوم السابع من أكتوبر ثم استيقظت فجأة، وخرجت تزأر في وجه العدو الصهيوني وحلفائه، لم تنتصر لضحية ميتة. فالميت لا صوت له ولا صدى، ومن لا يصرخ في هذا العالم يموت وحيداً في خزان الحصار، ولن يسمعه أحد.
خرجوا بعد صيحة جارحة من الشرق العنيد. خرجوا من المدارس والجامعات والنقابات والمصانع، من أجل أنفسهم أولاً. ومن أجل غزة التي تدافع عن الإنسانية وتقاتل فوق الأرض وتحتها. هتفوا لفلسطين وللجنوب وللضفة. هتفوا «فلسطين سَتحرّر من النهر إلى البحر» ويردّد الملايين «عاشت المقاومة»، فالشعوب الحرة مثل فلسطين تقف في مواجهة آلة حرب صهيونية أميركية أوروبية مجرمة، وترى في «إسرائيل» كياناً عنصرياً بذيئاً وقديماً ينتمي إلى عصر النازية والفاشية ومزبلة التاريخ. كيان الوحش المستعمر الذي تقادم وهرم، كيان يكره النور والحرية، هذا الكابوس، هذا الظلام، هذا الكيان إلى زوال.
ثمّة فارق شاسع بين ركام وركام. في غزة جدران مكسورة، تقاوم. بيوت تحوّلت إلى مقبرة للغزاة، أمّا في «قمة الرياض» فكانت صورة نقيضة عن جمع آخر، حيث يتساند ركام وحطام الأنظمة ومن باعوا ضمائرهم وسقطوا في الوحل والعار إلى الأبد.