اليمن الجريح يُعيد الاعتبار للعروبة: قضية فلسطين في ضوء مواقف الدول العربية
الأنظمة الحاكمة والأجندة الأجنبية: العرب بين الاستعباد والهوان
وما يسطرون – محمد بن عامر – المساء برس|
نعيش الآن في زمن بائس من الناحية الانثربولوجية والسوسيولوجية، وبكل المقاييس. فقد شاءت الأقدار أن يتولى البلدان العربية حكامًا يخذلون طبيعة عمران المجتمعات العربية وخصائصها الانثوغرافية، ويدفعون شعوبهم إلى دوامة من الضعف والهوان والانحدار، ويقودوهم نحو شباك الإمبريالية الجديدة. وبعضهم ذهب بعيدًا ببلدانهم بحكم ريعيتها في نهج آخر، ولكن النهاية واحدة، وهي قبضة النظام الرأسمالي الاستغلالي الذي عمل على مدى عقود من الزمن على تكريس التبعية بين الدول الغربية والدول النامية خاصة الدول الخليجية التي ظلت تدور في حلقة التخلف المفرغة، وتتمسك بهذا الاختيار، وبذلك تظهر ضمن الفئات الاجتماعية الأقل انتماء لوطنها التي تنظر إليه مجرد رقم في الحساب المصرفي. هذه البلدان كالسعودية والإمارات وغيرها فضلت الاعتماد على الريع لزيادة السيولة المالية، ولم يكن ذلك بوابة للتطور بل أدى إلى تكبيل نفسها بسلاسل الارتهان للأجنبي.
هذا العصر هو عصر التعقيدات السياسية وصراع المصالح التي تتغلب عليها التوجهات النرجسية الخبيثة والتطرف النفسي المعروف في العلوم السيكولوجية بـ”جنون العظمة”. نجد أن زعماء الأنظمة العربية مهتمون في المقام الأول بالقوى الاقتصادية والمكاسب الجيوسياسية، ويتجاهلون أي قضايا أو مسائل قد تتعارض مع تلك المصالح ويتنكرون لها بشدة باعتبارها عوائق أمام غرائزهم وأهوائهم التي تعتريهم وتنساق بهم وراء اللذة وإشباع الشهوات بدون أدنى اهتمام للمعايير الاجتماعية. هذه الأنظمة السياسية مفرغة تمامًا من أي محتوى أخلاقي وإنساني على الرغم من ارتباطها بعقائد و قيم دينية.
واقع فلسطين المحتلة في هذه الأوقات يُعري الأنظمة والحكومات العربية العميلة، ويكشف عن أولوياتها بالتخاذل والتقاعس عن تحقيق مسؤوليتها الدينية والأخلاقية في نصرة الفلسطينيين. بل وحتى لم تكلف نفسها المحاولة في التخفيف عن معاناتهم عبر الضغط على كيان إسرائيل الغاصب، بالسماح لإغاثة الفلسطينيين الذين يرزحون تحت القصف العنيف والحصار الشامل على مدى 37 يومًا، وإدخال المساعدات الإنسانية إليهم من منفذ رفح. وفي هذا الواقع المرير، فيما يتعرض أهل غزة للقمع والحصار وانتهاك حقوق الإنسان بوحشية، ينفض الغبار عن حقائق تظهر بشاعة دور الأنظمة العربية في هذه المأساة.
التضامن العربي المشلول: هل يعقل أن تنقلب الأولويات لهذا الحد؟
عندما نتأمل الحقائق يصعب عدم الاشمئزاز والتعجب من سخرية القدر ودناءة الموقف الذي تتخذه بعض الدول العربية تجاه القضية الفلسطينية. لنتحدث أولاً عن مصر، هذا الجار الأقرب للفلسطينيين، حيث تمتلك الحكومة المصرية السلطة الكاملة في فتح أو إغلاق معبر رفح للفلسطينيين في غزة، فنراها تقف موقف المحايد! إنها خيبة ثقيلة للغاية، فالجميع يعلم أن الفلسطينيين يعانون من القصف والحصار وفي حين بمقدور الجار الأقرب لهؤلاء المضطهدين على فتح المنفذ البري الوحيد الذي يربط سكان القطاع المحاصر بالعالم الخارجي يرفض ذلك تمامًا، متجاهلًا المعاناة الفلسطينية، بل يصبح بذلك الكاتب الثاني لقصص آلاف الفلسطينيين المحاصرين والمكلومين.
ولا ننسى السعودية، هذه الدولة الملتزمة بحماية الكيان الصهيوني من الصواريخ اليمنية القادمة. نعم، قررت السعودية أن تقوم بدور المدفعية الخاصة بإسرائيل، فهي تعترض صواريخ اليمن التي تستهدف عمق الكيان الصهيوني في إطار استراتيجية الردع التي تحاول السلطة الحاكمة في العاصمة اليمنية صنعاء فرضها على هذا الكيان النازي بالضغط عليه عسكريًا تحت معادلة (قصف الأراضي المحتلة في فلسطين لن يتوقف طالما لم يكف الصهاينة عدوانهم على غزة). المملكة العربية السعودية تُعتبر حامية الإسلام وموطن الحرمين الشرفين. غير أن النظام السعودي بدلاً من وقوفه إلى جانب الأمة العربية والإسلامية نراه قد انغمس في حرب تستهدف قضية الأمة، وأصبح يتفاخر بالتصدي للصاروخ اليمني الذي أُطلق لأول مرة قبيل دخول اليمن رسميًا في المعركة ضد الكيان الغاصب. وإلى الإمارات، نرى كيف تقصف غزة وترسل الأسلحة والصواريخ لدعم الكيان الاحتلالي أيضًا. على الرغم من أن الإمارات تتشدق بالإنسانية وتدعي محاربة الإرهاب ومناصرة حقوق الإنسان، إلا أنها تظهر ازدواجية المعايير لديها بتفضيلها دعم ومساندة كيان الاحتلال المجرم عوضًا عن أن تقف جنبًا إلى جنب مع الشعب الفلسطيني المظلوم.
وكأن ذلك لم يكن كافيًا، تأتي الأردن، لتكتمل الصورة، تفتح سماءها لنقل الأسلحة والصواريخ إلى الكيان الإسرائيلي. لا تتوقف الخيبة هنا، فهذا البلد الذي يُعد داعمًا للفلسطينيين ينفتح على الكيان المُجرم ويعطي رشقات جديدة للعروبة المأزومة.. كان الأمل معلقًا على مساعدة الدول العربية في وقف العدوان وحماية الفلسطينيين، ولكن تبدو الخيبة كبيرة.
كيف نجد جواباً يتناسب مع حجم القضية الفلسطينية، هذه القضية التي تلهب جوف العروبة وتزيد من وجع الأمة العربية. كيف تتخلى هذه الدول العربية، الجامعة بلغتها وثقافتها ودينها، عن فلسطين وأبنائها بلا رحمة يكافحون وحدهم في وجه الموت المحقق؟ إنها خيانة لا تُتبرر. فلم يعد هناك شيء يشبه الإنسانية في أعمالهم، حيث يتعرض الفلسطينيين لحرب الإبادة من قبل الكيان الصهيوني، فالأمر لا يتطلب وازعًا دينيًا إنما يكفي ان يكون المرء إنسانًا لدعم المظلومين.
فمن الواضح أن هذه الدول العربية ليست إلا دمى في يد القوى العظمى. هؤلاء الزعماء الغير مسؤولين يتغاضون عن معاناة الفلسطينيين ويتجاهلون قضية الأمة العربية والإسلامية الأولى. يدعون تضامنهم الزائف مع الفلسطينيين، ولكنهم يندفعون لمصلحة الكيان الصهيوني بلا خجل. هذه الأنظمة “الساقطة” – التي تظهر بأنها مهتمة بالقضية الفلسطينية – هي التي تدعم بشكل سري وعلني الكيان الصهيوني، وتسعى لتحقيق مصالحه اللا إنسانية. ومن المثير للسخرية أن الدول الآنفة الذكر تمارس ميكانيزم سيكولوجي (الاسقاط) الحيلة الرديئة والمكشوفة، التي تقوم من خلالها بإلصاق عيوبها ونقائصها وسلوكياتها الدنيئة إلى الدول الأخرى التي تحتضن محور المقاومة، في مساعي دائمة منها إلى إلقاء اللوم على دول المحور في سبيل تبييض صورتها أمام الرأي العام.
داء العروبة
بسبب هذه الأنظمة ومواقفها المخزية وما تجلبه لشعوبها من عار تقف العروبة المنكسرة على شفير الهاوية، وبتنا نواجه أكثر من أي وقت مضى “داء العروبة! الحالة السياسية والاجتماعية المتردية التي تعاني منها الأمم العربية. أتذكر بعض الأبيات الشعرية للشاعر المغربي محمد الحلوي الذي كان يحاول التصدي للواقع الاجتماعي والسياسي المحزن للأمة العربية مستخدمًا الشعر كوسيلة لإثارة الوعي والتحفيز للتحول الإيجابي. يظهر من خلال قصائده ذات الصلة رغبته في توحيد الصفوف العربية والدعوة إلى التآزر لمقاومة أعداء العروبة والإسلام.
“هل أدركت أمم العروبـة داءها فاستنهضت لعلاجه حكماءها؟ هلا تلافت أمرها من قبل ان تقوى الجراح فلا تطق شفاءها؟” يوجه الشاعر المغربي من خلال هذه الأبيات رسالة قومية إلى أمم العروبة تتمثل في استنكار الوضع الذي وصلت إليه وتردي أحوالها السياسية والاجتماعية. فبكلمة “داءها” يرُكز الشاعر الحلوي على أن الأمة العربية تعاني من مرض مستفحل، مما يُشير إلى حالة الضعف التي تعيشها.
نتساءل اليوم عن قوة ومعنى الروح الوطنية والقيم الإسلامية في العالم العربي في ظل المتغيرات العالمية. في الوقت الذي كانت فيه الروح الوطنية والمبادئ الدينية والأخلاق والقيم الإنسانية تلهم الأجيال السابقة وتدفعها للتضحية من أجل الأمة والمجتمع، يبدو أن هذه المتغيرات قد أثرت على هذه الروح والهوية لدى الأوساط الحاكمة في العالم العربي. ومن ثم تلاشت هذه المبادئ أمام اهتمامات فردية ضيقة، وبالتالي باتت الاعتبارات الاقتصادية والمصالح السياسية تؤثر في استجابة الدول العربية لأزمات المنطقة. ولكن هل يمكن أن تُعزز العروبة ومبادئ الدين الإسلامي وتحكم مصائر الدول العربية في المشهد السياسي العربي؟ هل يمكن لها أن تعمل على تحقيق الوحدة العربية وجمع الشعوب العربية تحت راية واحدة؟ أم أنها مجرد خيط ضعيف يتلاشى في ظل تحديات العصر الحديث؟
ربما الإجابة تكمن في القدرة على إحياء روح الانتماء الوطني واستعادة العروبة والوحدة الإٍسلامية من خلال تعزيز الوعي الجمعي واصطفاف الأمة العربية والإسلامية جمعاء، ومقاومة كل أشكال الهوان والذل المتجذرة في الجسد العربي، والأهم من ذلك هو التخلص من الأنظمة العربية العميلة من خلال ربيع عربي جديد، ثم يأتي زوال كيان صهيون. لا شك أن هذا المشوار ليس سهلاً، وما تقوم به دول محور المقاومة مثل اليمن والعراق ولبنان إلى جانب الجمهورية الإسلامية إيران هو خير سبيل لتحقيق هذه الغاية. كون أن هذه الدول هي الصخرة المنيعة التي وقفت بأقدام ثابتة في مواجهة جبروت طغاة الغرب والأمريكان، وتقدم الدعم حتى ولو كان بسيطًا، فالمقاومة وجميع فصائلها أقدر على ممارسة الإنسانية بمواقفها وتضحياتها في معركة الوعي واستعادة الكرامة والحق المنهوب. المعركة التي تعبر عن إرادة مجتمع يسعى للتحرر من أغلال الظلم والاستعباد. معركة استعادة الهوية بكل ما تحمله من قيم ومبادئ وغريزة فطرية في نصرة الإسلام والمسلمين في صقاع الأرض.
المكابدة من أجل العزة والكرامة
لنا أن نتتبع ردود الفعل الواردة من العالم العربي التي تظهر الفرح العارم والاعتزاز العالي بقيام دولة عربية بنصرة الشعب الفلسطيني في أحلك ظروفه وإطلاق الصواريخ والطيران المسير صوب عمق الكيان النازي على الرغم من الظروف الصعبة التي تعانيها وفي ظل العدوان والحصار المستمرين للعام التاسع على التوالي مقارنة بتلك الدول التي تحظى بأمان وفي أوج قوتها وتشهد ازدهار اقتصادي خلافًا عن اليمن الجريح. هذا البلد الذي أعتبر الكثير من المراقبين والمحليين مواقفه بشأن فلسطين إنها أعادت الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة. هذا الأمر يؤكد لنا أن المفتاح لكسب القلوب العربية هو الالتزام المبدأي بقضايا الأمة العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهذا ما تمكنت منه الجمهورية اليمنية.
في إطار الواقع المرير الذي يعيشه العالم العربي، يُطرح السؤال المحوري حول ما إذا كانت الشعوب العربية ستستيقظ وتواجه أنظمتها التي أصبحت أداة للأجندة الأجنبية؟ هل سيأتي الوقت الذي يسمح للعرب بكتابة فصل جديد من تاريخهم، يسرد ملحمة الكرامة والعزة بعد أعوامٍ طوال من الاستعباد والهوان؟ هل سيكون للعقل الجمعي العربي صوتٌ قويٌ يعبّر عن الرغبة الجامحة لاحتضان رياح الحرية واستعادة ذاتها، بعد أن خذلتهم أنظمتهم وحكوماتهم في علاقاتها مع الدول الإمبريالية الرأسمالية الانتهازية وسلوكها المُستهجن تجاه قضايا الأمة الإسلامية.