لماذا نقاتل؟
عامر محسن – وما يسطرون|
هل كان يمكن لإعلان حربٍ بين روسيا واليابان أن يحصل لو كان متاحاً لطائرة سريعة أن تنطلق من سان بطرسبرغ، خلال ساعة من الحدث، وتلقي بنصف طنٍّ من المتفجرات على مكاتب وزارة الحربية؟ هل يمكن لأيّ أمّةٍ أن تحارب أمّةً أخرى وأمام ناظريها مثل هذه المخاطر؟»
جون بريسبان ووكر، 1904
منذ عام 1948 والأدبيات العربية تتكاثر حول «عوامل ضعف» إسرائيل و«هشاشتها» وغياب «العمق الإستراتيجي» لديها وتناقضاتها البنيويّة، وقد فهمنا بالتوازي أن كلّ هذه العوامل «النظريّة» لا قيمة لها إن لم تخرج لديك قوّة تفعّلها وتستغلّها وتحوّلها إلى ضغطٍ ووبالٍ على العدو. كتب فولتير مرّة أنّ «الله لا يقف مع صاحب الكتائب الأضخم، بل مع الذي يصوّب أفضل»، ويمكن اعتبار هذا القول بمنزلة الـ«جوهر» لقواعد الحرب الحديثة بحسب كتابٍ جديدٍ للباحث العسكري الأميركي أندرو كريبينيفيتش، «أصول النّصر». عدا عن حياته الأكاديمية، قضى المؤلف سنواتٍ طويلة قبل ذلك في الهيئات البحثية العليا للجيش الأميركي، والتي يكون همّها المستمرّ رصد الصيحات المقبلة في عالم الحرب، وتقييم قدرات جيشهم مقارنةً بالمنافسين.
فكرة كريبينيفيتش – على مذهب «كلاوسفيتز» – هي أنّه لا توجد «قوانين» ثابتة للحرب نقدر على استنباطها، ولا يمكن تحويل النظرية العسكرية إلى «علم» وقواعد، تدرسها ببساطة ثمّ تطبّقها. الحرب، تاريخياً، هي شيءٌ سائلٌ متغيّر، والميدان هو الذي يستولد قوانينَه الخاصّة ويفرضها عليك وليس العكس. جلّ ما يمكن للعسكري فعله هو أن يحاول فهم «روح» المعركة التي أمامه، وأن يرسم منهجيّةً تناسبها. عند كريبينيفيتش، مثلاً، يمرّ شكل الحرب كاملاً وطبائعها، على مرّ التاريخ، بتغييراتٍ جذرية على نحو دوري، وهذا يحصل على صورة «ثوراتٍ» متوالية تغيّر كامل معنى القتال.
الحرب أيام نابليون، مثلاً، تختلف تماماً عن الحرب بعده بنصف قرن، لماذا؟ بسبب «ثورة القطار والتلغراف والبندقية المحلزنة». أصبح في وسعك تركيز كمية هائلة من الجنود والقوة النارية – بفضل القطارات – على خطّ الجبهة، والتنسيق بين وحداتٍ كثيرة على خطوط قتالٍ تمتدّ عشرات أو مئات الكيلومترات (الحرب العالمية الأولى المثال الأنضج على تلك الحقبة). بعدها، يكتب كريبينيفيتش، ظهرت «الثورة الميكانيكية» في الحرب العالمية الثانية وما بعدها. قبل اعتماد المحرّك والدبابة كنتَ، وإن تمكّنتَ من نقل ملايين الجنود إلى الجبهة، فهم لا يزالون يتحركون على أرض الميدان بسرعة الرجل الماشي أو الحصان، كما كان الحال في العصور القديمة، وهذا يعني أنّك حتى لو حقّقت اختراقاً، فأنت لن تتمكّن من استغلاله إلّا في حدود سرعة المشاة، بضعة كيلومترات في اليوم، وضمن مدى المدفعية الثابتة التي تغطّيك. في زمن «الحرب الميكانيكية» أصبحت قوّتك الناريّة متحرّكة، تركّزها على نقطةٍ محدّدة في جبهة العدوّ، وتخترق في العمق وبسرعة، تقطع عشرات الكيلومترات في اليوم خلف الخطوط فيما الطيران يرافق قواتك ويساندها. هذا الإطار هو الذي حكم، إجمالاً، حروب النصف الثاني من القرن العشرين.
أمّا اليوم، يقول الكاتب، فنحن في مرحلة «حرب الدقّة». ثورة الإلكترونيات وأشباه الموصلات، منذ الستينيات، غيّرت معنى السلاح التقليدي وميدان الحرب. أصبح تأثيرك مرتبطاً بدقّة الإصابة، وليس بحجم القوة النارية (كما شرحنا سابقاً، كان التعجيل الأميركي في صناعة الأسلحة الدقيقة في السبعينيات يهدف إلى خلق هوّةٍ بينهم وبين السوفيات – تعوّض عن التفوّق السوفياتي العددي في أوروبا – وذلك في مجالٍ تكنولوجي متقدّم كان من الصعب على الشيوعيين أن يلاحقوا الغرب فيه). تسمح التكنولوجيا اليوم بإنشاء منظومة للاستطلاع والكشف والمراقبة لم يكن ممكناً تخيّلها في الماضي، من الكاميرات إلى المسيّرات إلى الأقمار الصناعية، وهي ترتبط بمنظومةٍ قادرة على ضرب العدوّ الذي ترصده بدقّةٍ متناهية. يقول كريبينيفيتش إن أميركا عرضت هذه المنظومة للمرة الأولى في حرب العراق عام 1991؛ وفي الحقيقة كانت حرب 1991 «تقليدية» إلى حدّ كبير، يقول الكاتب، ولكنها بُنيت حول «نواةٍ» من منظومة الحرب الدقيقة (طائرات شبحية، ذخائر دقيقة شكلت أقل من 8% من إجمالي الذخائر المستخدمة من الأميركيين يومها، ولكنها لعبت دوراً محورياً في إسكات الدفاعات و«فتح الباب»).
إسرائيل كـ «أرض محروقة»
ما يهمّ كريبينيفيتش هو التنظير لمستقبل الجيش الأميركي، ولكن ما يهمنا هو تأثير هذه العوامل في ساحتنا. للوهلة الأولى، يبدو أن عهد «الحرب الدقيقة» هو في مصلحة القوى المتقدّمة الثريّة، مثل إسرائيل وأميركا، التي سبقت الآخرين في اعتماد هذه التقنيات «الثورية»، ولكن الواقع قد يكون عكس ذلك. حين تظهر «ثورةٌ» ما في مجال الحرب، يقول الكاتب، سيحقق أهل السبق فيها امتيازاً هائلاً على من حولهم. ولكنّ هذه التقنيات، التي تبدأ حصريّةً ونادرةً وغالية الثمن، سوف «تنضج» مع الوقت وتروج وتنتشر. منظومة «الحرب الدقيقة» نفسها قد نضجت كثيراً منذ بداياتها: في حرب عام 1991 ضد العراق، كانت المدة الزمنية بين أن يحدد الأميركيون هدفاً وأن تُنقل إحداثيته، ثم يتم اتخاذ القرار بقصفه والتنفيذ، تستغرق ثلاثة أيامٍ تقريباً. بعدها بسنوات في يوغوسلافيا أصبحت تلك المدّة أقل من أربع ساعات؛ أما عام 2003، مجدّداً في العراق، فقد تقلّص زمن «دورة القتل» إلى أقل من نصف ساعة في بعض الحالات.
أن «ينضج» عهد الحرب الدقيقة يعني أن يقوم خصوم الغربيين أيضاً، الروس والصينيون والإيرانيون، باعتماد هذه التقنيات وتطويعها لمصلحة مذهبهم في الحرب. هنا، يقول الكاتب، خرجت فكرة الA2/AD في العقيدة الصينية: أن تستخدم تقنيات الاستطلاع والضرب الدقيق لكي تخلق «منطقة تحريم» (بحر الصين الجنوبي مثلاً، أو الخليج) يصعب جدّاً على أيّ عدوٍّ دخوله. منطقةٌ بقربك تصبح بمنزلة no man›s land، بتعبير المؤلّف، لأن القاعدة الأساسية في عهد «الحرب الدقيقة» هي أنّك، إن تمكّنت من رصد خصمك، فقد أصبحت لديك احتمالية عالية جدّاً لتدميره.
ماذا يعني ذلك لإسرائيل؟ الكيان بأكمله، وفقاً لهذه المعايير، هو بمنزلة no man›s land صغيرة، كلّ ما فيه مكشوفٌ وفي المتناول، أو هو يمكن بسهولةٍ أن يصبح كذلك. أو، حتى نكون أدقّ، هي حالة شرحها المؤلّف في كتابه (ولم يكن في ذهنه إسرائيل)، حين «تتداخل» مناطق التحريم لقوىً متنافسة بسبب الجغرافيا وقرب الحدود، أي إنّني، مع اختلاف القدرات، «أراك كما تراني وأطالك كما تطالني». ليس من المستحيل أن تبني للكيان إستراتيجية دفاعية في هذا السياق ولكنه، بالقطع، لن يكون مكاناً مريحاً لبلدٍ واقتصادٍ ومجتمعٍ مدنيّ. سنعرض الموقف بصورةٍ مختلفة: حتى مدةٍ قريبة، لو شاءت إسرائيل شنّ حربٍ مدمّرة على لبنان أو غزّة، لكان «شعاع التأثير» داخل إسرائيل يقتصر على شريحةٍ بسيطةٍ من الأرض الحدودية: إصبع الجليل أو غلاف غزّة. هذا كان سقف الحساب الإسرائيلي، حفنةٌ من القرى والمستوطنات، ولو صعّدت تل أبيب الحرب إلى أقصاها. أما اليوم، فالحسابات لا تقتصر على كامل مساحة فلسطين فقط، من إيلات إلى طبريا، بل تتعداها إلى قواعد أميركا ومصالحها في العراق وسوريا، وعروش حلفائها ومنابع النفط، ومعابر البحر الأحمر وهرمز، إلخ. وجزءٌ أساسي من إستراتيجية محور المقاومة اليوم هو في أن يزيد، إلى الحدّ الأقصى، من عدد «المتغيّرات» التي يجب على أميركا حسبانها في حال اشتدّت الحرب وتوسّعت.
يومها، نحن اليوم في مرحلةٍ جديدة وعلينا التعامل مع هذا الواقع والانطلاق منه. ورغم أنّ الحرب لا تزال في أوّلها، إلّا أن نقاط ضعف إسرائيل قد بدأت في الظهور. كتب باحثُ أميركي آخر اسمه أندرو إيكسوم، في بداية الحرب، أنه عمل في إدارة أوباما واجتمع وتفاوض لسنوات مع ضباطٍ إسرائيليين وتعرف إلى جيشهم من كثب (هو كتب رسالته الجامعية عن حرب لبنان 2006). يجزم إيكسوم، مثلاً، بأن في إسرائيل فعلاً سلاح جوّ وقوات خاصة على مستوىً عالٍ، ولكنّ الوضع العام لسواد جيش البرّ، في تدريبه وانضباطه، يقلّ بوضوحٍ، في رأيه، عن جيشٍ مثل الجيش الأميركي. علينا أن نتذكّر بأنّ جلّ القتال المباشر والتلاحمي الذي خاضه الإسرائيليون في العقدين الماضيين، في لبنان وغزّة، كان على يد الوحدات الخاصّة. وفي جيش البرّ الإسرائيلي 125 ألف جندي تقريباً، خمسهم من «النظاميين» المحترفين والباقي، حوالى المئة ألف، يؤدّي خدمته الإلزاميّة. حتى تشنّ إسرائيل حرباً في غزّة ولبنان اليوم، فهي لن تحتاج إلى الألوية النظامية فحسب، والمجنّدين معهم، بل ستضطرّ إلى استحضار مئات الآلاف من قوى الاحتياط، الذين التحقوا بالجيش بعد سنواتٍ في الحياة المدنية ووظائف المكتب، وستدرّبهم لأسبوعٍ قبل أن تلقي بهم في غزّة أو لبنان – في مواجهة بعضٍ من أفضل مقاتلي العالم. من هنا، وخلال ساعاتٍ من دخول غزّة، سقط أكثر من عشرين عسكرياً إسرائيلياً، جلّهم من «رأس الحربة» وألوية النخبة، وهم لا يزالون على تخوم المناطق المبنية. عام 1978، بالمقابل، احتلت إسرائيل نصف جنوب لبنان، بقراه وتلاله ووديانه، بخسارة 18 جندياً لا أكثر خلال أسبوعٍ من القتال (وقد قتلت في طريقها، بالطبع، الآلاف من المدنيين، وأطلقت تهجيراً جماعياً لأهل الجنوب امتدّ من ضواحي بيروت وصولاً إلى ديترويت).
نحن ما زلنا في البداية ولكن، كيفما ذهبت الأمور، سوف تخرج إسرائيل من الحرب وشعبها يفهم أن لا جدران ستحميه ولا جيش يمكن أن يسوّر واحته في هذا الزمن ومع مثل هؤلاء الأعداء. لهذا السبب قد نكتشف مستقبلاً أنّ أهمّ مساهمةٍ قدّمتها إيران في صراع هذه المنطقة ضدّ إسرائيل لم تكن في تسليح حركات المقاومة، أو تزويدها بالتقنية، أو كونها ظهيراً لها، بل هي تحديداً في إنشاء البرنامج النووي الإيراني وقدرته الرادعة (ولو من غير قنبلة)، وإلّا فإن إسرائيل كانت، في المستقبل القريب، ستهددنا كلّ يومٍ بالقصف النووي.
تحرير العقل العربي
على ذكر إيران، يجري اليوم بالطبع – على هامش الحرب – «جدالٌ أيديولوجي» يعكس تموضعات النخب العربية ومصالحها الطبقيّة وتوزّع فئاتها أكثر مما يعكس الرأي العام الشعبي أو الوقائع في الميدان. لهذا السّبب، من الممكن أن تستمع اليوم إلى كلامٍ كثيرٍ عن «فلسطين» و«المقاومة» من دون أن تفهم شيئاً تحليليّاً: «فلسطين» و«مقاومة» موجودتان في رأس من يتكلّم ومفصّلتان على مقاسه. هذا بمعنى أنّك لا تفهم، مثلاً، وجود نظامٍ عربيّ، مرتبط بالحرب العالميّة على غزّة. هناك، في الخطاب المائع، «أنظمة عربية وإسلامية» متخاذلة، تلفظ دائماً بالجمع، كأن ليس لها أسماء وهوية وأسبابٌ خلف سياساتها. لاحظ حسن الخلف مرّةً أنّك تجد أن نقد هذه النّخب لإيران يكون دائماً نقداً «جذرياً»، تناقضٌ كامل وعداء، فيما نقدها لـ«النظام العربي»، السعودية وغيرها، يكون أشبه بـ«العتاب». حتى حين تطبّع الرياض وتستقبل الإسرائيليين، وتسجن قادة المقاومة على أرضها، وتحاول فرض «اتفاقات إبراهيم» على الفلسطينيين، يكون نقدهم من باب نقد المحبّ الذي يؤلمه أنّ الأمير لا يستمع إليه، وهو كلّه أملٌ في أن «يعود إلى رشده» وإلى «الثوابت العربية». لاحظوا سيل المديح الذي ناله بيانٌ من الرياض، مجرّد بيان؛ كأنّ المشكلة مع هذه الأنظمة هي في لغة البيانات، وليست مسألة بنيوية تعود إلى نشأتها ومصالحها وتحالفاتها ودورها في النظام الدولي وفي المنطقة (وأنتم تعرفون كم من هؤلاء الحكّام يحلمون حالياً بأن تقوم إسرائيل، فعلاً، بالقضاء على حماس). بل الطرافة في التناقض تصل إلى أن تجد من يسمّي حركات المقاومة في المنطقة، بكلّ تراثها وماضيها وجماهيرها، «أذرعاً إيرانيّة»، فيسحب عنها شرعيتها ويستخدم معها لغة أعدائها، ولكنه في الوقت نفسه يرسم لها الخطط ويزايد عليها ويحدّد دورها في المعركة. من أكثر إمارات السذاجة والغباء، في أيّ سياق، هو أن تقبل بجعل عدوّك أو من لا ثقة فيه قاضياً عليك، يقيّم أفعالك ويحاكمها. الطريف أكثر هو أنّك حين تستطلع من هم ليسوا «أدوات إيران»، بحسب هذه التقسيمة، تكتشف أنهم – حرفياً وكلّهم – أدوات أميركا.
الثقافة والإعلام وجه أساسيّ من أوجه الحرب، والثقافة السائدة هي – في المعركة – عدوّنا أيضاً. رموزٌ مثل «الجزيرة» و«العربية»، والهيمنة المطلقة للإعلام الخليجي وثقافته، ليست أموراً منزلة أو «طبيعية» يمكن أن نقبلها كما هي، بل هي بنت تاريخٍ سياسيّ من الهزائم والأحداث. وتاريخها هذا، بمعنى ما، هو أيضاً تاريخنا الجماعي. لا أحبّ الدراسات التي «تنقد الإعلام» عبر تحليل خطابه ولغته، كم مرّة استخدموا هذا التعبير وأي كلمةٍ اختاروا لوصف هذا الحدث، إلخ. التحليل الحقيقي للإعلام هو تحليل رأس المال الذي أنشأه، والدور الذي يلعبه في منظومة الثقافة والسيطرة، ومن غير هذه الخلفيّة ستكون مجرّد مستهلكٍ لمادته، لا ناقداً لها.
الحرب، تاريخياً، هي شيءٌ سائلٌ متغيّر، والميدان هو الذي يستولد قوانينَه الخاصّة ويفرضها عليك وليس العكس
كنت أتذكّر مع أصدقاء، ونحن من جيلٍ شهد الظهور العاصف والمدهش للقنوات الفضائية الخليجية في أواخر التسعينيات: «أم بي سي» و«أوربت» و«أي آر تي» وغيرها. لم يكن هناك شيءٌ محلّيُّ يمكن أن ينافسها، سواء أفي التسلية أم في السياسة أم الرياضة والأفلام. كان يقابلك برنامج منوّعات لعمرو أديب، مثلاً، لم يعرف الجمهور العربي مثيلاً له مسبقاً (ضيوفُ مشاهير في قالب مسلٍّ، مغنون وممثلون وراقصات: هاني شاكر يليه محمد هنيدي تليه دينا؛ مستوى مختلف في الإخراج والصورة والإنتاج، وقد ظهر معي أنّ أكثر التقنيين والمخرجين في تلك البرامج المبكرة كانوا أجانب).
ثمّ خلقوا لك «الجزيرة»، والتغطية السياسية، في البداية، حرصت طبعاً على عدم «استفزاز» مشاعرك، حول فلسطين والاحتلال والعراق، بل على استيعابها واللعب عليها وتوجيهها فيما بعد؛ المهمّ هو أن يكون هذا الجمهور تحت جناحهم وليس مع طرفٍ آخر. وحين جاء غزو العراق، أنشؤوا «العربية» قطباً ثانياً من غير أن يضحّوا بالأوّل، فأصبحوا يتحكمون بكل نواحي الإعلام والتسلية والسياسة والثقافة الشعبية، ويستوعبون الجميع؛ وهكذا أسهموا في تشكيل الوعي والعقول لأجيالٍ من العرب.
سوف تخرج إسرائيل من الحرب وشعبها يفهم أن لا جدران ستحميه ولا جيش يمكن أن يسوّر واحته في هذا الزمن ومع مثل هؤلاء الأعداء
ما أقوله هو إنّ هذه القصّة تبدأ، حقيقة، مع حرب عام 1991 وليس مع انتشار الأطباق اللاقطة على أسطح المدن العربيّة. حرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفياتي. كان من المستحيل تخيّل مثل هذه المنظومة الخليجية القائمة اليوم في عهدٍ سياسيٍّ مختلف. المسألة بدأت مع هزيمة العراق، الصدمة والصفعة، وتحطيم «ثوابت» العالم القديم: هذا هو مفهومك عن «القوة العربية»؟ هزمه الجيش الأميركي خلال ساعات. لديك من تعوّل عليه في موسكو؟ سقط وانهار بأكثر الأشكال إذلالاً. شعاراتك و»ثوابتك» وعروبتك؟ أثبتت فشلها وأصبحت مضغة. كان من الواجب أن يتمّ تحطيم «الموجود»، ونزع شرعيته بالكامل، قبل أن يخرج جديدهم. وهذا قد حصل عبر الحرب والهزيمة، وليس إثر جدالٍ ومناظرة. الهزيمة والفراغ حلّا بالترافق مع مرحلة الليبرالية الاقتصادية و«التخصيص»، مرحلة ضمور الإعلام الرسمي وكلّ القطاع العام، وحين أصبح الصوت لرأس المال وحده، ورأس المال المتبقّي كان في الخليج. إن تذكرون، على الهامش، حلّت في تلك المرحلة الفاصلة، التسعينيات، مدة قحطٍ وصحراء في الإعلام العربي ومادته وخطابه، إلى درجة أن القنوات اللبنانية المحليّة، فقط لأنها كانت تبثّ أفلاماً مترجمة وبعض التسلية الرخيصة، نالت حظوة ومشاهدةً لحين.
يوجد اليوم نظام عربيّ مرتبط بالحرب العالميّة على غزّة، وهناك حكامٌ يحلمون حالياً بأن تقضي إسرائيل، فعلاً، على حماس
الفكرة هي أنّك حين تتعامل مع نتاج هذه المؤسسة ومع ممثليها فإنّ عليك، أوّلاً، أن تتذكّر هذا التاريخ بأكمله، قبل أن تستمع إلى ألفاظهم وتنظيرهم في السياسة والمقاومة ومصالح الناس. أمّا «الثقافة المضادة»، فهي لن تكون في جريدةٍ أو تلفزيون منافس، فهذا مستحيل، بل هي حراكٌ اجتماعي، مادي ومعنوي، يتشارك فيه الملايين من الناس في هذه المنطقة من العالم، وأهلها اليوم هم في ساحات القتال. ما أوضح من ذلك أكثر من مثال اليمن، يدخل نفسه في ساحة معركةٍ هو – بالمعنى الموضوعي – قد يكون في غنى عنها. ولمن يستخفّ بمشاركة اليمن أو ببعده الجغرافي، فهو لا يفهم معنى أن تتحدّى إسرائيل أو أميركا عسكرياً بهذا الشكل (وهو غالباً يكون من النوع الذي ينتظر البيان السعودي «الجيّد» ليتفاءل به). قد يدفع اليمن الثمن، بالمعنى الواقعي المباشر، حملةً جويّة تدمّر ما تبقّى لديه، قد تناله غارات واغتيالات وحصار مشدّد. ومع ذلك هم أخذوا خيارهم بكلّ سهولة وتلقائية فأصبح المشهد جليّاً: اليمنيّون يطلقون على إسرائيل الصّواريخ، والسعوديّون يصدّونها في الجوّ.
خاتمة: إبراهيم الدبق
عامل الضعف الحقيقي لدى إسرائيل، في الحقيقة، هو ليس في سياقٍ تقنيّ محدّد أو في تنامي قدرات المقاومة، على أهمية تلك العناصر، بل هو في أن الصهاينة يواجهون اليوم خصوماً قد فهموا الجوهر الحقيقي للـ»الدرس الفيتنامي». الدرس هو ليس في أن تكتب نصوصاً نظرية وشعارات عن الحرب الشعبية، بل في أن تنظّم مجتمعاً – أو شريحةً كاملةً من المجتمع – لكي تعمل جماعياً وبكفاءة صوب هدفٍ وطنيّ مشترك مهما كانت الأثمان. خذوا هذا المثال البسيط: حين تستدعي «حماس» مقاتليها يوم الحرب، فهم جميعاً يلتحقون على الفور، وحين يطلب «حزب الله» المجاهدين، تفرغ القرى من الشباب. ومن يسير إلى موقعه يعرف أنه يذهب إلى مصيرٍ بالغ الخطر، والعودة منه غير مضمونة البتّة. كم جيشٍ نظاميّ عربي، تظنّون، سيهرع إليه الاحتياط من أمان بيوتهم إذا ما تمّ استدعاؤهم يوم الكريهة؟ هنا نجد معنى مفهوم «التعبئة» والتحشيد والقيادة الذي كتب عنه الأمجد سلامة، وهو ما يعطيك الشرعية ويجعل هزيمتك صعبة طالما أنّ خلفك شعبٌ وتنظيمٌ وعقيدة. إن حصرتهم في غزّة يجعلونها حصناً، وإن هجّرتهم من غزّة سيتنظّمون في سيناء، وإن قتلت منهم جيلاً سيعيش الجيل التالي لكي يثأر له، فكيف تهزمهم؟
أصبح المشهد جليّاً: اليمنيّون يطلقون على إسرائيل الصّواريخ، والسعوديّون يصدّونها في الجوّ
على الجبهة في لبنان، الجميع يعيش الحرب الواقعة ويتحسّب لتلك الأكبر التي قد تحصل. البعض يخزّن المواد، البعض يستطلع أماكن محتملةً للجوء، والبعض الآخر يرابط ويقتحم الخطر، وكلّنا نتابع خسائر العدوّ ونعدّ خسائرنا. من بين أسماء الشهداء التي أعلنت في الأيّام الأولى مرّ أمامي اسمٌ مألوف، كنت أعرفه في زمنٍ بعيد: إبراهيم الدّبق. كان أهل الشهيد جيراننا في القرية، دارهم يلاصق دارنا في قرىً لم يكن للفواصل والجدران فيها كثير معنى. وكنت ألتقيه في بيتنا وهو صبيٌ صغير يلعب مع مُجايليه. تغيب عشرين سنةٍ لتكتشف أنه قد أصبح بطلاً اختصاصياً يجندل الأعداء. أذكر أنه كان ولداً قصيراً ناحلاً، ولكنه حيويّ مغامرٌ وبالغ النشاط (طوّر أيّامها، مع أقاربي الصغار، مهارة تسلّق الجدران والأماكن العالية إلى درجةٍ أثارت قلق الراشدين). وهو أيضاً كان بشوشاً يبتسم كثيراً، وفي عينيه ذكاءٌ غريب، حين رأيت الصورة عرفته من عينيه. هي قصّة «جنوبيّة» أصبحت معروفة وتراثاً لدينا: بعضنا، وسط العالم القاسي الذي رُمينا فيها، يحاول أن يحمي نفسه بالمال وبالمركز، ويسعى ويسافر ويجرّب حظّه في الدّنيا. والبعض الآخر كالشهيد ورفاقه يسلك طريقاً مختلفاً بالكامل، أكثرنا لا يقدر عليه ولا يُقاس فيه عمرك بالسنوات، ويصبح في آخره ذاك الفتى النحيل أكبر منّا جميعاً.