خطاب الفصل في الحرب
طراد حمادة – وما يسطرون|
خطاب سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، بيانٌ في الحرب وعن الحرب، ناطق باسم المقاومة الإسلامية التي شاركت في الحرب منذ يومها الثاني، ومعها محور المقاومة، وبيان للموقف من الحرب. جاء في مناسبة تكريم شهداء طريق القدس الذين سقطوا في ميدان الحرب. ولأنه القوة التي يحسب لها ألف حساب في الميدان، انتظره كثيرون، الأمّة والعالم والصديق والعدو، وذهبوا في تقدير مضامينه مذاهب شتى. لأنه الخطاب الفصل الذي يلزم أن يقرأ فيه كل حرف منه وأن تقرأ ما بين الحروف، الواضح منها والغامض البنّاء، ولذلك هو قابل للشرح، بمعنى أن تقف على المقصود والمراد منه والتأويل، بمعنى أن تنظر إلى ما يترتّب عليه من آثار تتعلّق بتطور الحرب نفسها. لأنه خطاب لا يقدّم موقفاً من الحدث اليومي، وهو حاصل فيه، لكنه يضع الأحداث في حركة الزمان، وهو زمان الحرب، وعادةً تكون فيه الأحداث متسارعة تسارع الأنفاس، الحاضر فيها وثيق الصلة بما سوف يأتي، كل لحظة من الحرب لها زمانها وآثارها.
يتناول الخطاب الحربَ ويقرأ في مناهج قواعدها، ولا تدرك مقاصده إلا بالنظر إلى أنه خطاب يتصل بها اتصال الموقف بالمقال والحدث بالحديث والتبيان بالمعاني والمقاصد. إنه خطاب العقل والحكمة والشجاعة والدراية، والتجربة والشراكة، ووصف البيان لحال الميدان في زمن الحرب وعنها وفي تكريم شهدائها الأبرار، وعليه، سوف نستند إلى هذا الرؤية لزمن الخطاب وفق منهج شرحه وتأويله في أصول قواعده باعتباره خطاباً في الحرب وعنها، ونحاول في هذا المنهج، على قدر الوسع، أن ننفذ إلى حقيقة الخطاب، بنيانه، جدله، تبيانه، أهدافه ومقاصده، وعليه نبدأ:
في هوية الحرب وأهدافها
قامت الحرب بهجوم مباغت شنّته قوات «القسام»، و«سرايا القدس» والفصائل الأخرى التي شاركت في موجته الثانية. وكانت حرباً فلسطينية الهوية والأسباب والدوافع والتخطيط والتنفيذ وتعيين الأهداف الاستراتيجية البعيدة والقريبة. وهذه القوى الفلسطينية من محور المقاومة، لكنها لم تعلم بالحرب الشركاءَ في الساحات الأخرى لأسباب عدّة، من أبرزها: إعطاء هذه المعركة الكبرى طابع الحرب بين فلسطين كل فلسطين وبين المحتلّين للأرض. أرادت أن تكون المعركة فلسطينية من أجل فلسطين والقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وإن كانت تستند وتثق بدعم ومساندة محور المقاومة ثقةً تامة ودعماً موثوقاً.
إنّ هوية هذه الحرب الصريحة الوضوح تحدّد طبيعة مشاركة ساحات محور المقاومة في المساندة والدعم وكل ما يلزم، وفق تطورات الحرب ومراحلها. كما أنها تحدّد المواقف السياسية الدولية وإمكانية الحشد والدعم والدعاية وكسب الأصدقاء وقطف ثمار الانتصار في الحرب التي تعود إلى طبيعة الأهداف التي وضعتها لها المقاومة الفلسطينية. إنها حرب تحرير فلسطينية، وفلسطين قضية العرب والمسلمين الأولى، ولذلك فإن حركة الدعم ستأخذ طابع نصرة فلسطين أكثر من الموقف من جهات أخرى في المحور المقاوم. وهذا معروف في علاقات الدول وما يرسم المصالح والأحلاف في تعيين المواقف ومجال ومستوى الدعم، سواء كان من الدول العربية أو الدول الإسلامية ومن الأصدقاء في العالم.
هذا من ناحية هوية الحرب التي شدّد الخطاب على طلبها الفلسطيني، لجعل كل القوى والمحاور في نصرة هذه الهوية، ولذلك أطلق على شهداء جبهة الجنوب شهداء الطريق إلى القدس.
ما الذي حققته من انتصار؟
حققت حرب «طوفان الأقصى» الفلسطينية، في منطوق الخطاب، انتصاراً لم يسبق له مثيل، وأظهرت ضعف قوة الاحتلال وارتباكه، وأنه حقيقة أوهن من بيت العنكبوت، ما حمل دولاً مساندة له للحشد العسكري والسياسي في المنطقة لم يحصل منذ زمن الحرب العالمية الثانية. وكان شعار هذه الحملة والحشد العسكري الأميركي والأوروبي دعم دولة الاحتلال وتحذير من اتساع الحرب وإعلان مشاركتها العملانية في حال اتّساع هذه الحرب إلى مناطق أخرى.
في العلم العسكري، الحشد نصف الحرب. ولذلك، فإن لعبة الحرب في اليوم الثاني لانتصار السابع من أكتوبر أصبحت مختلفة. بمعنى تطورت إلى إمكان نشوب حرب كبرى، وهو ما لم يحصل في الحروب السابقة التي كانت فيها أشكال الدعم تقتصر على مشاركة في السلاح والسياسة والإعلام، فيما هي الآن تقترب من المشاركة في الميدان، وهذا ما لم يكن في حسبان حرب التحرير نفسها – إن ضعف العدو، وقوة انتصار المقاومة، حوّلت في آثارها وقواعدها وليس في هويتها.
هل أثّرت هذه التحوّلات على مسار الحرب؟
كان تأثيرها يرتبط بحساب توقيت الحرب الكبرى لا أكثر ولا أقل. فيما حصلت المشاركة في الحرب من قبل المحور المقاوم على الجبهات المختلفة وفق قواعد الاشتباك في كل جبهة منها مشاركة في دعم غزة وفلسطين وحرب التحرير الفلسطينية، مع الحفاظ على ما أسّست له هذه الحرب في الانتصار وفي تعيين الأهداف وجعلها حرباً فلسطينية صريحة الوضوح والحضور.
ما قام به العدو هو إبادة جماعية. كان جيشه قاتلاً وليس مقاتلاً. وتردّد في دخول الحرب البرية التي يتعثر فيها الآن. وبدأت حركة دعم من الشعوب العالمية لم يسبق لها مثيل تطالب بإيقاف الإبادة البشرية في غزة وإيقاف الحرب والذهاب إلى طاولة التسويات. يعني الأمور بدأت تنضج لقطف ثمار الحرب، لكن بتقديم تضحيات كبرى لم يسبق أن حصلت عند شعب إلا وحقق فيها انتصاراً عسكرياً ومعنوياً.
مقدمة خطاب السيد نصر الله كانت تشرح هذه الناحية من الحرب، أسبابها ودوافعها، التخطيط، والتنفيذ، الأهداف، وتحمّل التضحيات، وتحقيق الانتصار، وإعلان حرب فلسطينة مع قوات العدو، وأنه انتصار لفلسطين وكذلك لكل العرب والمسلمين وأحرار العالم. وإن من قام بها حركة تحرير وطني، وهي حرب عادلة ومشروعة بكل مقاييس العقل والشرع والقانون الدولي، من الناحية الفلسطينية، ولكنها مخالفة لكل هذه القواعد في الحروب من ناحية العدو بشكل بدأ يقلق العالم ويغيّر في بناء معسكر صناعة الأصدقاء. هذه المقدمة أساسية لفهم هوية الحرب وطبيعة المشاركة فيها ومستوى تطور هذه المشاركة وفق تحولات الحرب نفسها. بمعنى أنها مشاركة دعم ومساندة، وعلاقتها بطبيعة المعركة في كل جبهة من جبهات محور المقاومة: يؤكد الخطاب أن المحور مشارك في الحرب على قاعدة الدعم والمساندة، وهذا يتفق مع طابع هوية الحرب على ما ذكرنا. وفيه أن: حرب مساندة ودعم قوى محور المقاومة بدأت منذ اليوم الثاني للحرب، وخاصة من قبل المقاومة الإسلامية في لبنان على جبهة الجنوب، بعمليات ترافق حركة الحرب في قطاع غزة، ما جعل العدو يحشد لها ربع قواته. وهنا قدّمت دراسة حول طبيعة الحشد المتقابل على هذه الجبهة، وحصلت وفق قواعد تتعلق بالجبهة نفسها.
في كل الحروب، لا يتم القتال وفق طريقة واحدة. لكل معركة قواعد اشتباكها. ولكن في هذه الحرب، كل المعارك التي تخاض في جنوب لبنان وفي اليمن والعراق وسوريا ومناطق أخرى تصبّ في خانة ساحة الحرب المركزية في غزة، وتسجل نقاطها في مصلحة هذه الجبهة وفي حسابها.
هذا ما سمّاه السيد حرب الانتصار بتجميع النقاط وليس الحرب الكبرى بتحقيق الضربة القاضية التي لها شروطها وقواعدها وزمانها ومكانها. وهو أمر معرف في علم الاستراتيجيات السياسية والعسكرية. لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، لكن قد نصل إليها وفق تطورات الحرب ومراحلها. وإن كان الأمر يبقى في مرحلة الغموض البنّاء، لا الوضوح الصريح الحضور. هذا الحضور الصريح تثبته صور ستين من الشهداء الأبرار على طريق القدس، أقمار جبل عامل وفلسطين الذين هبّوا للنصرة والدعم والمشاركة في الحرب منذ يومها الثاني، وهم دائماً في الميدان على أهبة الاستعداد لكل مراحل الحرب من أجل فلسطين والقدس.
يقف بعض المحلّلين أمام مصطلح محور المقاومة. وهو محور تحالف سياسي عسكري يشبه ميثاق الدفاع المشترك. لكن هذا لا يعني أن كل الساحات في هذا المحور تعمل من الناحية العسكرية وفق قواعد واحدة، لكل ساحة قواعد حربها وذلك يعرفه ويفهمه العسكريون وخبراء علم الحرب. السيد كان ناطقاً باسم هذا المحور. وحدّد لكل ساحة دورها وقواعد المشاركة في الحرب فيها وفق مفاهيم دقيقة في إدارة الحرب وقواعد علم الحرب. ولذلك يجب إدراك هذه الناحية لننفذ إلى عمق الخطاب وإلى مقاصده العليا. إنّ حصر السؤال في مسألة: هل تبدأ الحرب الكبرى من الجبهة اللبنانية، وهل يتم في لبنان ما حصل في غلاف غزة، وفى حرب غزة، وكذلك في جبهة سوريا واليمن والعراق، سؤال ساذج على مستوى العلم العسكري لأن كل ساحة من هذه الساحات لها قوانين حربها.
نتذكر في حرب تشرين أن المعركة بدأت في الجبهة المصرية، لأن الشمس تكون لمصلحة الجيش المصري في عملية العبور، فيما تكون في سوريا لمصلحة العدوّ على جبهة الجولان، وتم الاتفاق على ذلك لأن لكل ساحة ظروفها المكانية في الحرب. ثم إن جزءاً من الحشد العسكري في البحر الأحمر والبحر المتوسط حاصل لدور في جبهات أخرى وليس في جبهة غزة العملانية. وإن كانت المشاركة موجودة في نواحٍ عدة منها، لكن أساس الحشد الذي هو نصف الحرب هو للجبهات الأخرى من المحور. وهذا واضح من طبيعة الاشتباك ومن طبيعة خطة الحرب وسياساتها التي تتضمن التحذير والتهديد والاستعداد من قبل كل أطرافها. هنا يبرز ردّ السيد على هذه الناحية في قوله أعددنا لها عدّتها.
حدّد الخطاب أهداف قوى محور المقاومة وتطوّر مشاركته في أعمال الحرب في هدفين اثنين:
(١) وقف العدوان على غزة. وذلك يعني وقف حرب الإبادة البشرية وتدمير البنيان وقتل المدنيّين من أهل غزة وسكانها. (٢) أن تنتصر «حماس» في غزة خاصة، والعدوّ يجعل من الحرب على «حماس» الهدف الأساسي له، وكذلك رفع عنها صفة المقاومة المشروعة وجعل أول أهدافه القضاء عليها. انتصار «حماس» عنوان كبير يسقط كل أهداف العدو من العدوان.
هذان الهدفان هما عملياً إيقاف الحرب في لحظة انتصار فلسطين ومقاومتها، هما الآن الهدفان المنشودان من قبل المقاومة الفلسطينية، من «حماس» إلى «الجهاد» إلى بقية الفصائل. وهذا ممكن التحقيق لأسباب منها ما يأتي:
١) قطف ثمار تضحيات غزة ودماء الأطفال فيها على آلة الحرب الهمجية في ما يشبه انتصار الدم على السيف.
٢) قطف ثمار الانتصار التاريخي في السابع من أكتوبر.
٣) قطف ثمار مقاومة الغزو البري وردّه خائباً وإنزال خسائر كبرى في قواته.
٤) قطف ثمار مشاركة الجبهات في محور المقاومة في الحرب.
٥) قطف ثمار التحوّل في الرأي العام الدولي وحركة الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الحرة.
٦) إبعاد خطر نشوب حرب إقليمية كبرى قد تتحوّل، بالعطف على حرب أوكرانيا، إلى حرب عالمية ثالثة وهذا ليس تهويلاً، ولكنه قد يكون حقيقة.
وعليه، إن هذه الأهداف قابلة للتحقق، وإلا كان ما كان ممّا لسنا ندرك مخاطره، وقد تكون الحرب الكبرى قرب زمانها وحلّ أوانها. ستبقى الحرب قائمة، طالما لم تتوقف في غزة وتحقق أهداف أهل فلسطين. وإذا اتسعت الحرب فسوف تتّسع أهدافها. وإذا كنا نرجّح أن الأهداف الفلسطينية من الحرب قابلة للتحقيق الآن، فإنّ مقاصد الخطاب وحكمته تشرح ذلك بالتبيّن وعلم اليقين.
كنت أصغي إلى الخطاب وأنظر إلى لوحة صور الشهداء. كان المشهد يشبه أن تنظر إلى القدس وإلى غزة وإلى نابلس والخليل والجليل. إنه الحلم الذي نراه في ما يرى الرائي، لكن متحققاً هناك في غزة هاشم وجبل عامل واليمن السعيد والجولان الشامخ والعراق على ضفاف الفرات ودجلة.
هذا الخطاب لا يمكن أن تدرك كامل أبعاده إلا بالرؤية التي تنفذ إليه من الظاهر إلى الباطن؛ خطاب الفصل في الحرب حيث يكمن جوهر الحقيقة.