في ذكرى العدوان الثلاثي: عن غزّة القوية ومصر المحبوسة
خالد بركات – وما يسطرون|
في مثل هذه الأيام عام 1956، كانت مصر تنهض وتقاتل، تكسر قيودها وتنفض الغبار عن ثوب التاريخ وتقاوم العدوان الثلاثي (الفرنسي – البريطاني – الصهيوني)، فتدخل كل البلاد إلى عصر جديد. نهضت «المحروسة» بسواعد المقاومة المسلّحة في بورسعيد وبورفؤاد وبإرادة عمّال مدن القناة وفلاحيها وفقرائها تتصدى لمعسكر العدوّ. لقد قرّر جمال عبد الناصر ورفاقه تأميم قناة السويس، والرّد على الإهانة الغربية التي حرمت مصر حقّها في بناء السّد العالي، وقرّرت الجماهير الشعبية المصرية استعادة هيبتها وثروتها، فوقفت مصر على قدميها، ترفع رأسها وتتمرد على قوى الهيمنة والاستغلال، ومعها وخلفها وقفت شعوب الأمة من المحيط إلى الخليج، وكل أحرار العالم، فانتصرت.
كانت غزة عام 1956 أوّل خط دفاعيّ في معركة السويس تواجه الغزو الصهيوني لمصر، إذ تعرّضت الجماهير الفلسطينية إلى سلسلة من المجازر الصهيونية على يد قوات العدو الصهيوني التي اجتاحت سيناء لتشارك في العدوان على مصر. ولا غرابة في الأمر، فكل الجيوش الغازية التي جاءت لاستعمار مصر ظلّت تأتي من خاصرتها الشرقية على مدار التاريخ، ولكنها كانت تصطدم في أول قلعة تدافع عن مصر، واسمها غزّة، و«قازا» أو «جازا»، تعني في اللغة «المنطقة القوية» أو «الأرض المنيعة»، وإنّ لغزة من اسمها نصيب كبير.
لقد فقدت مصر ذاكرتها وطريقها ودورها، مذ صارت رهينة لاتفاقيات «كامب ديفيد»، يغتصبها رأس المال والصهاينة وشركات النهب ونفط الخليج، صارت مستلسمة وخاضعة للعدو، مهينة، معتقلة، مغيّبة، هامشية، في وقت لا تزال قلعتها الأولى، غزة القوية، تهزم العدو وتقول له: ما زلت كما أنا، حارسة مصر ومقبرة للغزاة.
لا أحد في مصر يذكر تلك الأيام المجيدة في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1956، حين وقفت مصر على أرض هويتها العربية الأفريقية، لتكون رائدة وقائدة في عالمها العربي وجنوب الأرض. فمنذ الانقلاب العسكريّ الفاشي في حزيران/ يونيو 2013، تعيش الجماهيرُ المصريّة في أفران العُزلة والخوف والقمع. لقد أسَّسَ الانقلابُ الدمويّ لجمهورية السجون، وعزَّز الشراكةَ بين قادةِ الجيش ورأسِ المال، كما لم يحدثْ يوماً في تاريخ هذه البلاد. ولم يكن الانقلابُ على إنجازات ثورة 25 يناير المجيدة لينجح لولا الدعم المباشر من القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة، وحليفها الكيان الصهيونيّ، ولولا احتضان القوى الرجعيّة، وفي مُقدّمتها السعوديّة والإمارات والأردن وغيرها من أنظمة الهزيمة والسقوط والتطبيع.
انتصرت مقاومة الشعب المصري على العدوان الثلاثي على مصر، وانتصرت رغم كل ما حدث من تدمير لمدن القناة، كانت مقاومة تبشّر ببداية عصر جديد للعرب وليس لمصر وحدها. كانت ثورة تدشّن مرحلة بناء وتقدّم وولادة لمشروع النهضة. أكدت معركة السويس 1956 حقائق كبرى: تراجع الإمبراطورية البريطانية التي انسحبت من المنطقة، فيما فرنسا الحاقدة على مصر بسبب ما قدّمته الأخيرة من دعم وسلاح للثورة الجزائرية، تخرج هي الأخرى مدحورة ومهزومة وتستعد لهزيمتها الكبرى في أرض الجزائر.
وفي هذه التفاصيل كلها، حضرت المقاومة العربية ومعسكرها الشعبي، تدافع عن مصر، حضرت من غزة وسوريا مروراً بالعراق ولبنان والجزائر وتونس وصولاً إلى كل قرية ومدينة، وسوف تكتشف مصر دورها وعمقها وقوتها، وأنّ هيبتها تأتي من ممارسة مسؤوليتها الوطنية والقومية وليس بالاستعراضات العسكرية الكاذبة.
في مصر 2023، يوجد نظام عميل ورخو ينبطح أمام الصهاينة والولايات المتحدة، ويستقبل ماكرون وكل قادة الغرب الفاشي العنصري ولا يستقبل قادة المقاومة. هذا نظام مهزوم، لا يملك لو حفنة من إرادة تكفي لفتح بوابة رفح، نظام يشارك في حصار غزة منذ 18 سنة، وهكذا تكشف غزة من جديد عن الوجه القبيح للجلاد المهزوم في القاهرة والذي يعتقل 60 ألفاً من خيرة أبناء مصر وبناتها، ويزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات ويحبسهم في صناديق الخوف والجهل والوعي الزائف، وكلما أسقطت غزة قناع الأنظمة، ثاروا عليها وحاصروها وصلبوها.
في مصر نظام فاشيّ صغير حاول تسويق نفسه في أيامه الأولى بالتلطّي خلف صورة جمال عبد الناصر، ولكنه يعمل على تزوير الحاضر والتاريخ معاً. فهل يستوي الضبّاطُ الأحرار الذين قاتلوا في الفالوجة وغزّة حتى الرصاصة الأخيرة، وضبّاط «كامب ديفيد» الذين يحاصرون غزّة ويقدّمون التقارير إلى البنتاغون؟ هل يستوي مَن استعادوا لمصرَ موقعَها الطبيعيَّ الرياديَّ في العالم، مع الذين قزّموها وكرّسوا نظامَ التبعيّة والرضوخ للمستعمِر الأجنبيّ والصهاينة ونظامِ آل سعود؟
ولا تطلب غزة – القلعة – من مصر المحبوسة (وليس المحروسة) إلا أن تستعيد صورتها وهويتها وذاكرتها وكرامتها. أن ترفض واقعها وفرمانات الفرعون الجديد وألّا تخاف من الثورة والعصيان من جديد، وأن تتمرّد على جنرالات الفساد، وعلى طغمة فاشية تحكم مصر الكبيرة بالدجل وهيلمان الجنرال والإعلام الكاذب.
لا تطلب غزة القوية من مصر الضعيفة إلّا أن تعود رائدة وحرة وكبيرة، كي لا تظل رهينة ومغتصبة. ففي مصر حكومة تفتح قدميها لكل غاصب ومستعمِر أجنبي ولا تقوى على كسر بوابة رفح!