غزة العظمى!
سعد الله مزرعاني – وما يسطرون|
مباشرةً، ودون تأخير أو استئذان، دخلت معركة غزة في قلب الصراع الدائر في العالم: بشأن توازناته، وخصوصاً لجهة الإصرار على التفرُّد والوحدانية أميركياً، من جهة، أو محاولة استبدالها بتعددية قطبية تُغلّب التنوع على الأُحادية، والشراكة على الانفراد، من جهة ثانية. من بين أهم الأسباب، أن للكيان الصهيوني خصوصية مهمة في ما يتعلق بوظيفته وبدوره في الصراع في الشرق الأوسط وعليه. يتصل ذلك أساساً بعلاقته العضوية بالاستعمار الغربي ولا سيما بالولايات المتحدة الأميركية. وفّرت له تلك العلاقة كل أشكال الاحتضان والحماية والدعم: من بداياته، كمشروع إحلالي استيطاني في فلسطين على حساب وجود وحقوق شعبها، بدعم ورعاية من قبل بريطانيا العظمى، بوصفها دولة منتدبة على فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى. ثم بعد ذلك، بتبنّي كل سياساته ومغامراته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وضد البلدان العربية المجاورة، من قبل واشنطن التي واكبته، طيلة مرحلة ما بعد التأسيس، بالرعاية والدّعم الشامليْن كما لم يحصل بالنسبة إلى أي بلد آخر…وها هي الآن قد سارعت لنجدته، ولتغطية، بل قيادة، معركة تدمير غزة، حجراً وبشراً، دون أي تمويه أو خجل، إثر تسبب عملية «طوفان الأقصى» بحصول شبه انهيار كبير في المؤسسة الرسمية الإسرائيلية بشقَّيها: السياسي والأمني – العسكري!
اندراج معركة غزة في نطاق الصراع الدولي من أوسع أبوابه، سرعان ما جرى الإعلان عنه من قبل داعمي العدو الصهيوني، بشكل مباشر وسريع وفجّ. هو حصل عبر الزيارات لتل أبيب في صيغة سيل لم ينقطع. وزراء خارجية ودفاع و… ومن ثم الرئيس بايدن نفسه (مسافة 10 آلاف كلم) أول الواصلين. أبرز قادة دول «الأطلسي» حضروا تباعاً. لم يكتفوا بذلك، بل بادروا إلى إرسال الأساطيل والسفن الحربية فضلاً عن العتاد والمساعدات من كل نوع دعماً للنظام الصهيوني المُباغَت والمتضعضع! أعلن الرئيس الأميركي بعد عودته من تل أبيب أن «القرارات التي نتخذها اليوم سوف تحدد المستقبل لعقود مقبلة»، وأضاف: «إن قيادة أميركا تجمع العالم» لأن «حماس وبوتين يشكلان خطرين مختلفين لكن يشتركان في سعيهما لتصفية ديموقراطية مجاورة»! تبنّى كل زوار الكيان الصهيوني المحتل رواية نتنياهو: بأن «حماس» منظمة «إرهابية» كـ«داعش»: من رئيسَي وزراء بريطانيا وألمانيا… إلى رئيس جمهورية فرنسا. قال رئيس الحكومة الإسرائيلية (الأكثر تطرفاً، حتى في نظر الغرب نفسه): إنه يخوض معركة «الحضارة ضد البربرية». شدّد مندوب إسرائيل في مجلس الأمن في جلسة 24 الجاري، بعد أن هدّد الأمين العام للأمم المتحدة (الذي طالب بوقف فوري لإطلاق النار وأصبح، ربما، على لائحة الاغتيال الصهيونية كما حصل مع الكونت برنادوت عام 1948)، على أن إسرائيل «تخوض معركة العالم الحر»! الرئيس الفرنسي كان آخر من «حجّ» إلى تل أبيب يوم 24 الجاري. وهو وضع لمسة فرنسية مميزة بدعوته إلى إعلان «تحالف دولي ضد حماس على غرار التحالف الدولي ضد داعش». ذلك التحالف الذي تختصره واشنطن، لا يزال، بتلك الذريعة، يحتل مناطق إستراتيجية حساسة، أمنياً واقتصادياً، في كل من العراق وسوريا. ولم يتردّد الرئيس الفرنسي (بعد أن أصدر قراراً «تاريخياً» بمنع التظاهر في بلاده استنكاراً للجرائم الإسرائيلية في غزة) في زيارة بعض البلدان العربية التابعة، تقليدياً، للغرب والمطبّعة مع إسرائيل، من أجل دعوتها إلى الانضمام للتحالف العتيد.
اقتضت معركة مواجهة «حماس»، عبر تدمير غزة كلّها على رؤوس سكانها أطفالاً ونساءً وشيوخاً، أن تستفرد إسرائيل بضحيتها. وهكذا كانت المهمة الأولى للغرب الأميركي – الأوروبي بعد الدعم المفتوح، منع فتح الجبهة الشمالية ضد إسرائيل من الجنوب اللبناني. استدعى ذلك جملة ضغوط واتصالات لا مثيل لها: من كبار مسؤولي حكومات الغرب وتابعيهم… إلى وزير خارجية لبنان، الذي، بسبب تلعثمه في التعبير وفي الموقف، طالب إسرائيل بهدنة على الحدود اللبنانية لمدة 48 ساعة!
«العالم الحر» الذي اختار الاحتلال والغزو ونهب الموارد واستباحة الحدود والسيادة والممرات… أداة لنشر «الديموقراطية» والدفاع عن «حقوق الإنسان»، أسقط كلياً واقع أن «حماس»، وكل من حمل بندقية أو حجراً أو شعاراً في فلسطين، منذ أكثر من 75 سنة، إنما كان يحتج على احتلال استيطاني بغيض لم يعد له مثيل في العالم منذ سقوط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وانتخاب مانديلا رئيساً عام 1994. وهكذا أصبحت معركة التدمير الهمجي والمجازر النازية في غزة حرباً ضد «أشرار» و«برابرة» و«حيوانات» ودفاعاً عن «الحضارة» و«الديموقراطية» و«حقوق الإنسان». أمّا الوسائل، فحاملات الطائرات والأساطيل والسفن الحربية والإعلام الكاذب والفاجر الذي يزوّر الحقائق، على غرار ما كان الأمر دائماً: منذ غزو أفغانستان حتى غزو العراق وصولاً إلى تحويل أوكرانيا إلى أداة تهديد واستفزاز لأكبر دولة مساحةً في العالم، وتحويل تايوان إلى بؤرة استنزاف للصين، أكثر دول العالم سكاناً وحيوية وأعرقها حضارة وحكمة وتميّزاً.
من جهته، بكَّر القاتل نتنياهو، الحاقد والجبان والفاسد، في تحديد هدف المعركة: إعادة النظر في خرائط الشرق الأوسط. أمّا الفارق هذه المرة عن «شرق أوسط» شمعون بيريز، فهو أسلوبه المرتكز على الإبادة البشرية، والتدمير الشامل، والتهجير المتكرر، والإجرام الذي لا يترك حجراً ولا بشراً.
لم يحدث في التاريخ أن تمّ رفض هدنة إنسانية على النحو الذي يحدث في غزة وبمشاركة دول «العالم الحر» جميعها (فضلاً عن المتواطئين). ولم يحدث أن أُطلقت يد قوة مجرمة، غاشمة، ومذعورة ومدجّجة بأحدث الأسلحة، في القتل والتدمير على النحو الذي يستمر منذ أكثر من حوالي ثلاثة أسابيع في غزة. بذلك تصبح غزة، اليوم، بالتضحيات والبطولة ودماء الأطفال، نموذجاً فذاً عن مقاومة الظلم، وعن شراسة الظالمين في التشبّث بهيمنتهم وعدوانيتهم وتسلطهم على العالم. إنها، إذاً، غزّة العظمى!