سياسة الولايات المتّحدة وإبادة غزة ولبنان
ناثانيال جورج – وما يسطرون|
بعد سنوات طويلة من السكون، عادت فلسطين إلى جدول أعمال الولايات المتحدة، مع ارتباط وثيق للبنان بها. يختلج في الذهن ما كتبته المؤرّخة روزماري صايغ حيال السياسة الأميركية في لبنان التي تشبه النجم البعيد، حيث يراوح اهتمامها أحياناً بين السطوع والانحسار. بينما تركّز إسرائيل على حملتها العسكرية في غزة، تظهر الولايات المتحدة اهتماماً قوياً بالتحكّم في المشهد اللبناني، ما يكشف عن التقسيم الحالي للعمل في تحالفهما.
في الوقت نفسه، يؤكد الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن على ضرورة امتناع إسرائيل عن فتح جبهة ثانية مع لبنان، إلا أنه لا يظهر بوضوح أنها تواجه أي ضغط من قبل الولايات المتحدة لإنهاء هجومها وحصارها على السكان المدنيين في غزة، الذين أغلبهم هم أطفال، أو حتى الالتزام بقوانين الحرب الدولية. ونتيجة لذلك، تعلّم الولايات المتّحدة العالم بأنه لا يمكن الاعتماد على دعواتها العفيفة إلى “نظام دوليّ قائم على القواعد”. فمن الواضح أن هذه القواعد لا تنطبق على الولايات المتّحدة وحلفائها، وأبرزهم إسرائيل. تُواجَه المطالبة بوقف إطلاق النار بالازدراء. فرفضت الولايات المتحدة اقتراحَي وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وقد وصف السكرتير الصحافيّ للبيت الأبيض هذه الدعوة بأنها “مقرفة”. وفي حين تزعم التقارير بأن بايدن طلب بجدية من إسرائيل أن تتعهّد بالسماح بدخول كمية صغيرة من المساعدات الإنسانية إلى غزة بحلول 20 تشرين الأول، أكّدت حكومة نتنياهو سيطرتها النهائية على الوضع من خلال تأخير التسليم ليوم إضافيّ.
بدأت دروس الإفلات من العقوبة تجني ثماراً غير متوقّعة داخل الولايات المتحدة. القرار التنفيذي للرئيس بايدن ووزير الخارجية بلينكن بالدعم القوي لحملة إسرائيل العسكرية في غزة أثار انقساماً غير مسبوق في صنع السياسات الداخلية بشأن فلسطين. أولاً، قدّم المسؤول البارز في وزارة الخارجية، جوش بول، استقالة علنية بسبب “سوء استخدام الأسلحة الأميركية”، والآن هناك تقارير عن “عصيان” ينمو “على جميع المستويات” داخل وزارة الخارجية بسبب القصور الإستراتيجي والأخلاقي لهذه السياسة. ومع ذلك، تتمتع السلطة التنفيذية الأميركية بمستوى كبير من الاستقلالية السياسية لتنفيذ السياسة التي تختارها. بالإضافة إلى ذلك، هذه ليست المرة الأولى التي يتجاهل فيها المسؤولون التنفيذيون الأميركيون المحلّلين وصانعي السياسات الذين اعتمدت وجهات نظرهم المتعارضة [مع القرارات وليس في ما بينهم] مع الخبرة الإقليمية الخاصّة. في الواقع، هذا هو ديدن سياسة الولايات المتحدة في العالم العربي، وقد حدث أهم مصاديق ذلك في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر.
كما أثبت المؤرّخ سليم يعقوب بشكل مقنع أن كيسنجر ونيكسون هما من أفسدا مبادرة وزير الخارجية ويليام روجرز التي كانت تهدف إلى تحقيق تسوية شاملة بين الدول العربية وإسرائيل على أساس الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود عام 1967 (رغم ما في تلك المبادرة من نواقص). وكان سبب معارضة كيسنجر لمثل هذه الصفقة هو أنها كانت ستفرض تنازلات مؤكّدة على حليف الولايات المتحدة (إسرائيل) وتحقّق مكاسب أخرى لبعض حلفاء الاتحاد السوفياتي (مصر وسوريا). لذلك، تم استبدال العديد من الخبراء الإقليميين بإداريين غير عروبيّين، الذين كانوا على دراية جيدة بالنشاط العالمي ضد التوجّه الثوري، بشكل رئيسي في ما يتعلق بحملات الولايات المتحدة في الكونغو وجنوب شرق آسيا. وكان من بين هؤلاء الضباط أشخاص شغلوا أدواراً حاسمة في الحرب الأهلية اللبنانية، وشخصيات مثل لويس دين براون الذي تم تعيينه سفيراً في الأردن خلال سبتمبر الأسود عام 1970، ثم عُين مبعوثاً خاصاً للبنان في ربيع عام 1976، وجورج مكمورتري جودلي الذي أصبح سفيراً في لبنان عام 1974. كانت السياسة العامة لكيسنجر تهدف إلى منع التوصل إلى تسوية شاملة من خلال إبرام سلسلة من الصفقات الثنائية بين إسرائيل والدول العربية مع تهميش حقوق الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى، فضلاً عن سيادتهم. ولا تزال هذه الإستراتيجية الأميركية مُتَّبَعة حتى اليوم.
مع ذلك، سيكون من الضروري مراقبة كيفية تطور “العصيان” في ضوء الجدل القادم حول حزمة الدعم العسكري الطموحة لبايدن بقيمة 105 مليارات دولار لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان والحدود الأميركية المكسيكية. اقتراح بايدن، الذي تم الإعلان عنه في خطابه في 19 أكتوبر، يوضح بإيجاز التوسع العالمي لإستراتيجية الإمبريالية الأميركية. قد يشكل الحجم الهائل للحزمة، التي تُخصص حوالي 14 مليار دولار منها لإسرائيل، تحدياً كبيراً وسط الكونغرس الأميركي الذي يعاني من انقسام شديد. في الواقع، خلف اختيار نظام بايدن لربط هذه الأمور بعضها ببعض، يكمن تصميم في فرض الدعم عبر عدد من الدوائر الانتخابية المتنافسة. على الرغم من وجود دعم كبير من الحزبيْن لإسرائيل، وللمجمّع الصناعي العسكري، والهيمنة الأميركية العالمية، قد يواجه تمرير القانون تحديات بسبب عدم إحراز تقدم في أوكرانيا، والقضايا المحلية الملحّة، والتنافس الحزبي المطلق.
كما توضح الانقسامات في الكونغرس افتقاراً أوسع بكثير إلى الإجماع في السياسة الأميركية. ويتيح عدم الاتفاق بينهم فرصاً هامة لحركة التضامن الفلسطينية. في حين أن التشجيع لإسرائيل في حربها ضد “أطفال الظلام” العرب قد يكون شائعاً في الأماكن البعيدة والرغيدة، فإن هناك القليل من الرغبة بالتدخل الأميركي المباشر في الشرق الأوسط بعد الإخفاقات الأميركية المطوّلة في العراق وأفغانستان وليبيا. والجدير بالذكر أن هجوم إسرائيل الإبادي على الفلسطينيين في غزة دفع المزيد من أعضاء الجالية اليهودية الأميركية إلى التعبير عن انتقادات أقوى للسياسة الإسرائيلية من أي وقت مضى، ولا سيما بين جيل الشباب. إلى جانب AIPAC المتشددة والمتزمّتة، ومجموعات الضغط الصهيوني الليبرالية J Street، بدأ الشعور بمعاداة الصهيونية كقوة تتجاوز المشتبه بهم العاديين. لقد قام نشطاء في منظّمة Jewish Voice for Peace ومنظّمة If Not Now بتنظيم اعتصامات بارزة داخل وخارج مبنى الكابيتول والبيت الأبيض للمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار. تمّ اعتقال ما لا يقل عن 300 مشارك [في هذه التظاهرات]، وبالغت منظمات صهيونية بارزة مثل رابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League) بشكل متوقع في إدانتها هذه التظاهرات على أنها “معادية للسامية”.
حقيقة أن بعض المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين بمن فيهم العرب الأميركيون، انضموا إلى هذه المسيرات يمثل ذلك نقطة مضيئة واعدة في المشهد الكئيب اليوم، إذ إن التناقض بين هذه التحالفات الشعبية الجديدة والمتعددة الأعراق من ناحية، والمناورات الانتهازية للسياسيين الأميركيين الطموحين مثل حاكم كاليفورنيا جافين نيوسوم وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر (المنكبّين على الولاء لإسرائيل بينما هي تقصف المستشفيات وتجوّع الأطفال) من ناحية أخرى، قد بلغ أقصاه.
لا تزال مسألة اتساع نطاق الحرب تربك الإستراتيجيين الأميركيين والمتعاطفين معهم. لم يقم أي طرف معنيّ بإزالته من على الطاولة. في خطابه الذي ألقاه في 19 تشرين الأول، أعلن بايدن أن القوات الأميركية لن تقاتل القوات الروسية في أوكرانيا أو في أي مكان آخر. لكنه لم يقدم الالتزام نفسه في ما يتعلق بإسرائيل. لذلك، لا يزال نزول الجنود الأميركيين إلى الميدان احتمالاً في فلسطين والمشرق. إلا أن نقل قوة كبيرة إلى موضع ما أكثر تعقيداً مما قد يبدو في الانطباع الأولي، إذ يجب اختيار القوات وإعدادها، وتأمين طرق مأمونة وفعّالة، ووضع مجموعة من الخطط، وتقييم وتقدير ردود الفعل المحتملة من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، كما يجب اختيار اللحظة المناسبة والتبرير العام. فاللوجستيات الكبيرة التي ينطوي عليها الأمر ستكون أكثر صعوبة إذا كانت هناك حرب مستمرة. الأمر يحتاج إلى وقت، والوضع لا يستدعي (كل) ذلك بعد. نعم، يبدو أن إدارة بايدن تقوم بالمكائد التالية في الوقت الحالي: توجد حاملتا طائرات ومنظومة من السفن في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ وتمّ إرسال 2000 من المارينز المعنيين بالتدخل السريع؛ وهبطت 45 طائرة من طائرات شحن المعدات، في حين أن الدعم الإضافي في البحر الأحمر والخليج جاهز للاستفادة منه. ستكون لأي تحركات أميركية مهمة تأثيرات غير متوقّعة على بعض أهم حلفاء الولايات المتحدة مثل مصر والسعودية والأردن والإمارات والبحرين.
ولكن في هذه المرحلة، لا تتعلق جميع هذه المداولات إلا بالتفاصيل الفورية للأزمة القائمة. فهل سيؤدي حجم المشاكل – فعلية كانت أو محتملة – في نهاية المطاف إلى دفع الانتباه نحو معالجة الأسباب الجذرية للمعركة، ألا وهي حق الفلسطينيين في العودة، والاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي والشعوب الفلسطينية والسورية واللبنانية؛ وحصار غزة؛ وهيكلية الفصل العنصري داخل إسرائيل؟ تاريخياً، لم يحدث التسارع إلى المفاوضات إلا على مشارف وقوع الحرب، وعلى الأخصّ بعد إظهار المبادرة العربية في حرب أكتوبر 1973. ولم تسفر هذه المفاوضات حتى الآن إلا عن مزيد من الهيمنة الإسرائيلية. وهذا الأمر، هل يمكن أن يتغيّر أم لا؟ هو سؤال أعادت الأحداث الأخيرة طرحه. والأمر المؤكد هو أن محاولة قمع القضية الفلسطينية وعزلها عن الساحة العربية الأوسع لم تسفر إلا عن انفجارات مميتة بشكل متزايد.
* محاضر في سياسة الشّرق الأوسط، SOAS، جامعة لندن