تجارة الموت في الحدود

المساء برس |تقرير: وليد الحميري|

على طول الحدود اليمنية السعودية، أينما يممت بناظريك تجد الآلاف القبور المجهولة لمقاتلين يمنيين لقوا حتفهم في معارك عبثية دفاعاً عن المملكة السعودية، وبفعل سطوة المال السعودي إزدهرت تجارة الموت التي تبدء رحلتها من القرى النائية في اليمن وتنتهي بمعسكرات البقع وجيزان.

في السنة الاولى من الحرب كانت البقع الحدودية أشبه بخزينة أموال لاتنضب ، يذهب احدهم اليها ويعود حاملاً حزم من الريالات السعودية، يعود المقاتلين الى قراهم وهناك يبدؤن حملة تحشيد مسعورة نحو الحدود.

في البدء انفقت السعودية الكثير من الاموال للمقاتلين الاوائل، بغية تجييش اكبر عدداً ممكن من المقاتلين.

لم تكن الحرب في الحدود على اشدها انذاك، ظل الشبان يذهبون ويعودون الى قراهم،كان الوضع بالنسبة لهم مجرد نزهة يجلبون معها الكثير من المال ودون عناء.

وفي البقع كانت الاحلام بعيدة المنال بالنسبة لهؤلاء الشبان تتحقق على نحوً جعل من هذه الارض المقفرة وكأنها جنتهم الموعودة، في القرى البعيدة راجت مقولات من قبيل (زواجه والا البقع) و(تشتي تبوس الخدود.. عليك وعلى الحدود).

كان السعودي يرقب كل شئ، متحيناً اللحظة التي يزج فيها بالاعداد الهائلة من المقاتلين في محرقة لا ترحم، وهناك خلف رمال الحدود دفنت الاحلام، وتلاشت الاماني على نحو مفجع.

قتلت الحرب أجمل ما فينا، قتلت جيل كان يحلم بشهادة جامعية يعلقها على جدار غرفته، الجيل الذي كان يطوي المسافات ليصل الى مدرسته البعيده، ليعود في الظهيرة مثقلاً بالتعب اللذيذ،وهو يحدث نفسه،لا بأس غداً سأكون دكتور يملئ صيته الدنيا، وما هذه الطرق الجبلية التي نسلكها يومياً غدواً ورواحاً الى المدرسة الا فاتورة للمستقبل الاجمل.

يتأخر أحدهم في الوادي الخالي من رعاة الأغنام،كي يتسلل خلسة لسرقة القليل من اغصان القات تساعده على حفظ دروسه، يصل الى البيت منكهاً والعرق يتصبب من جبينه، ليحدث نفسه بأن ضريبة النجاح باهضة على أي حال، يصل الى المنزل ليبحث عما يسد به جوعه في بلادً أكلها الجوع والفقر.

هؤلاء الفتيان الذين أحببناهم على قلة خبرتهم بالحياة، عرفناهم بتسريحات شعر أنيقة،وابتسامة غجرية وبشقاوتهم البريئة.

ذهب غالبيتهم ضحية التحريض المنفلت للمؤدلجين سياسياً والمتطرفين عقائدياً، وتحت يافطات وشعارات عدمية،حشدوا فتيان في ريعان الشباب الى جبهات الموت، الموت الذي لم يراعي طراوة عودهم وصغر سنهم،وقلة خبرتهم بالحرب، ولا شئ في جعبتهم سوى كلمات وخطب عصماء عن الغزاة الكفرة الأتون من حدود المريخ وعوالم ماخلف بلادنا.

الخطب الطائفية والعنصرية التي كرسها المتدينون الحزبيون في مساجد القرى، كانت أيضاً أحد الاسباب التي ساهمت في تجييش شباب البلد في معارك عبثية.

وعلى وقعها تهاد الشباب الى الحرب جماعاتً وفرادى،ومضوا في دروب الموت دفاعاً عن الوهم، والوهم قاتل لا يعرف له صاحب، وفي غمار حرب ضروس لا ترحم،وجدوا أنفسهم حاملين بندقية الحرب بأيدي ترتجف رهبةً ورعب.

مزق صوت الرصاص سكون قريته الجميله في مخيلته، يحاول جاهداً الاحتماء بكتف صديقه من دوي القذائف، خانته ركبتاه وهما ترتعدان خوفاً.

لقد كان ينام الليل على فراش امه دون خوف، واليوم تحدق به المخاطر من كل جانب، وهناك خلف صحاري الحدود تمضي السويعات مثل دهر، تزحف المخاوف اليه من كل حدبً وصوب، الاجواء المفعمة بالدخان،اصوات المعارك التي لا تنتهي،والطائرات التي تحوم في الاجواء تبحث عن فريسة على الارض.

يسقط صديقه صريعاً مضرجاً بدمه، يفر الجميع هلعاً، ويحاول هو جاهداً حمل رفيقه الذي ينازع ليبقى على قيد الحياة، وهنا لا حياة لمن يشهر سلاحه بوجه إبن الأرض، حيث تقاتل السهول والجبال والهضاب النائمة جنباً الى جنب مع حماتها الأباة، ومن ينجو من محرقة الارض، تتلقفه رصاصات الجيش السعودي، وكثيرون هم من لقوا حتفهم غدراً بنيران عدو لا يرى في اليمني الا مرتزقاً رخيصاً لا قيمة له.

يقول جندي عجوز في الجبهة أستغلوا ظروفه المعيشية (مافيش حد يرجع يراجم بيت أمه الا أحنا)، ياعيالي هذي مش حربنا، قوموا نروح،والله لو نروح نشحت في بلادنا أشرف من ان أقاتل أبن بلادي دفاعاً عن بلادً ما جانا منها الا كل البلاء والمصايب.

ذهبوا جماعات طمعاً بفتات البترول،فعادوا فرادى يندبون رفقاهم الذين قضوا تحت رمال الحدود.

وفي القرى النائية أمهات يندبن أولادهن الذين ذهبوا ذات صباح نحو البقع ، ولم يعودوا حتى اللحظة، ومن شبابيك المنازل العتيقة والمعلقة فوق الجبال ترقب عيون الأمهات الثكالى جموع الهاربين من محرقة الحدود، عل أحداً يحمل معه علوماً عن الغائبين الذين لم يعرف مصيرهم بعد.

في كل زاوية من هذه البلاد، ثمة مأساة لا تتوقف عند ضحايا الحرب، في أحدى القرى تقف عجوز بلغت من العمر عتيا، تقف كل صباح عند مفترق الطرق المؤدية الى الجنوب، تسأل العابرين عن أبنها الوحيد الذي قيل لها أنه ذهب للاغتراب في السعودية.

هكذا ضلل مندوب التحشيد الأم المسكينة، ولثلاث سنوات ظلت العجوز رهينة الأمل بعودة إبنها من الاغتراب، تمضى الأيام ولا خبر جديد عن فتاها الذي ذهب ولم يعد.

تسوق بقرتها نحو الوادى الخصيب ” وهى تدندن بشوق: وأني فدى عبده وين ما يكون كان، يكون بمقهايه وإلا بدكان”، يرد عليها أحد الشبان بقسوة.. “أبنك قتل يا حجه، لا هو بمقهايه ولا بدكان”.

ذهب الشاب ذو الشعر الغجري ضحيةً للريال السعودي، الريال الذي أكل لحظات حبنا ولحظات فراقنا منذو خمسة عقود وأكثر، ضحية الشعارات الفضاضة والعبارات السخيفة، والوعود الزائفة.

على ايش ؟ولأجل من كل هذه التضحيات العدمية؟ لأجل ان ينعم الدب الداشر بالأمان، لأجل أن تنعم جارة السوء بالرفاهية والأستقرار، وهي التي ما أدخرت وسيلة لأفقارنا وتجويعنا الا وجربتها.

خمسون عاما ونحن نتضور جوعاً بالقرب من اكبر مخزون نفطي في العالم، يقبع الجندي السعودي السمين داخل مدرعته في خلفية الجبهة لنقاتل نحن بدلاً عنه.

نتلفت في حواجز التفتيش في انتظار إهانة ونتلمس في بلادنا رصاصة لا يدري أحدنا وهو يلتفت من أطلقها في الظهر وما الحد بين ملامح أخيك وسحنة الغريب.

قد يعجبك ايضا