مشردون وباحثون عن لقمة العيش.. نتيجة من نتائج حرب التحالف على اليمن
المساء برس| تقرير: عبدالله عبدالسلام|
بفعل الحرب والحصار على اليمن منذ ست سنوات، يعاني اليمنيون من ويلات الحرب والبطالة ويصل حال بعضهم إلى العيش مشردين، حيث ازدادت معاناتهم مع انقطاع الرواتب على موظفي الدولة بسبب قرار حكومة هادي المنفية في الرياض بنقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن، ما أدى إلى انعدام مصدر الدخل الوحيد لقرابة مليون أسرة.
ولعل مما فاقم من معاناة اليمنيين خاصة من ذوي الدخل المحدود، تراكم الديون عليهم سواء للمؤجرين أو لمحلات المواد الغذائية، الأمر الذي اضطرهم للخروج والتشرد متخذين السماء سقفهم والفرش الخفيفة بلاطهم والقمامة مصدر عيشهم وأكلهم وما تفضل عليهم أحاسن الناس من أكل وملبس وأشياء أخرى يخففون عليهم أعباء الحياة.
استشعاراً للمسؤولية المهنية الملقاة على عاتق وسائل الإعلام، رأيت أن من الضرورة النزول إلى الشارع لألتمس عن قرب تفاصيل الحياة اليومية لمن يتخذون من الأرصفة والحدائق العامة مأوى لهم، وأحاول أن نعيش لبعض الوقت آلامهم التي يعيشونها يومياً، وخرجنا بالحصيلة التالية:
وقبل أن أبدأ أود أن ألفت القراء الأكارم إلى أنني في هذه المادة حاولت أن أنقل ما خرجت به من أحاديث هؤلاء المشردين كما هي دون زيادة أو نقصان أو تغيير في المصطلحات والتعابير.
• زيارة ميدانية
بدأت زيارتي الميدانية لأبحث عن أحوال هؤلاء المهمَلين في شارع الزراعة خلف مبني جامعة صنعاء القديمة، حيث يجتمع العشرات منهم هناك حيث يعتبرون ذلك الشارع مكاناً آمناً لهم للعيش فيه بعضهم من يعيش بمفرده وبعضهم يعيشون هم وعائلاتهم.
• الرجل المقاوم
في طريقي للسير نحو نهاية سور الجامعة وأنا اتحقق من وجودهم وألتقط بعض الصور “للعشش” وهي أماكن بدائية تشبه الخيام تستخدم للنوم، لفتني شيء غريب من على بعد مسافة فحاولت أن اقترب أكثر حتى وجدت رجلاً سبعيني العمر تبدو على وجهه ملامح الصلاة والقوة، يجلس متكئاً على عشته المبنية من الطرابيل والبطانيات المهترئة والمتسخة.
لا أخفيكم أنني توقعت ألا يتجاوب الحاج عبدالله معي حين أطرح عليه بعض الأسئلة وأبدأ بمناقشته والحديث معه، لكن ما إن سلمت عليه وبدأت بالتحدث معه حتى بادلني الحديث بتلقائية وطلاقة وهو يتبسم، حينها شعرت بالطمأنينة والأمان، ويبدو أنني اعتقدت بأن هؤلاء المشردين أو بعضهم يعانون من حالات نفسية وأنني قد أتعرض للأذى حين اتحدث إليهم.
• قصة مكافح
بدأت بالحديث مع عبدالله العلفي البالغ من العمر 73 عاماً من أبناء محافظة عمران، ولديه 5 أولاد منهم 2 ذكور و3 إناث يعيشون في قريتهم بعمران، بينما هو يعيش في العراء خلف جامعة صنعاء القديمة، مستمتعاً بالحياة هناك، حسب ما يقول.
سألته عن سبب عيشه هنا وتركه لعائلته في عمران، فرد قائلاّ: “أنا مسحور”، فقلت له كيف قال: “عندما أذهب عند أولادي أشعر بالضيق وتضيق بي الحياة فأعود إلى مكاني هذا”.
• لا خوف علينا من البرد
سألت صديقنا العلفي عن البرد وكيف يعيشون هنا مع الجو القارس، قال: “أي برد؟! ما بش برد، الله بينزّل لنا الدفئ من عنده”.
وهو يتحدث أدهشني حقاً وكنت مستغرباً منه فقال لي: “البرد والله عند الذي هم في البيوت أشد من خارج”.
• الرجل المجاهد
ما أدهشني أيضاً في هذا الرجل السبعيني هو قوته وشدة بأسه، خصوصاً عندما قال لي إنه قاتل في المعارك ضد قوات التحالف السعودي الإماراتي في جبهة الأجاشر في الجوف منذ بداية الحرب على اليمن، وإنه يحب المرابطة في الجبهات أفضل من القعود “مطننين” – حالة من الشرود الذهني والانهماك في التفكير – فسألته لماذا لم تعد للجبهات، أجابني بكلام بليغ “والله لولا ضعف نظري لما قعدت هنا”.
وعن أكله وشربه وكيف يقضي حياته، قال لي إن الله هو الرازق، وإنه يشتغل في أي مهنة يجدها أمامه فيبيع ويشتري الخردة في سوق القاع، فيجد ما يسد به رمقه وينفق الباقي على شراء “القات” وفي نهاية اليوم يدخل عشته الصغيرة ويخلد إلى النوم.
• في ظلامٌ دامس
نزلت يوماً إلى البقالة وكانت الساعة الثانية عشر ليلاً لشراء بعض الاحتياجات، وعند عودتي إلى البيت لفتني رجل كان متكئاً قرب البقالة، وكانت تلك الليلة شديدة البرد فتأثرت لذلك الشخص، حاولت أن أتجاهل الأمر وأواصل طريقي إلى المنزل، لكنني عدت من جديد إليه وحاولت الاقتراب منه والتحدث معه لمعرفته قصته، وما الذي دفعه للجلوس في الشارع رغم البرد الشديد وفي هذا الوقت المتأخر من الليل.
• مطرود من البيت
سألته لماذا أنت هنا.. أليس الوقت متأخراً؟! وينبغي لك أن تكون متواجداً تحت البطانية في بيتك!!، فقال لي: كان عندي غرفة هنا في عمارة السامعي، وكنت مستأجراً لها ولكنني لم أستطع دفع كل ما يطلبه مني المؤجر، فخرجت بعد مشاكل كثيرة.
مشكلة “فهد مقبل” ليست مشكلة فردية؛ بل أصبحت حالة عامة يعاني منها معظم المستأجرين في صنعاء، بسبب بعض المؤجرين الذين لا همّ لهم سوى إيجار بيته بثمن لا يستطيع أمثال “فهد” دفعها.
• تعفف وعزة وكرامة
بعد سرد قصته الحزينة تألمت لحالته وهو يفترش الأرض بدون غطاء وكل ما يملكه “معوز وفنيلة” حصل عليها من أحد أصدقائه المقربين.
فحاولت أن أدخل يدي إلى جيبي وأقبض ما فيه من بعض المال لأعطيه، فرفض أن يأخذ مني شيئاً، رغم أنه لا يملك ريالاً واحداً، وحاولت الإلحاح عليه ولكنه رفض أيضاً، حتى أوضحت له وأقنعته إنها هدية مني وعليه أن يقبلها، فقبلها وهو محرج مني.
تبادلت معه الحديث عن الوضع الحالي في اليمن وقص لي حكاية نجله الوحيد، الذي قال بأنه قتل بطلقات نارية، لكنه لم يوضح أين ومتى قتل نجله، يقول فهد إنه وبعد مقتل نجله تبقى له ثلاث فتيات وأنه تركهن في رعاية والدته في الحوبان بتعز، بعد أن طلق زوجته وأم أولاده بسبب مشاكل بينهما.
وحين فكرت للحظة أن ألتقط له صورة بدون أن يعرف وجدت نفسي متردداً، ويبدو أن شعر بذلك، فما هي إلا ثوانٍ حتى قال لي “عادي صورني إذا كنت تريد”.
• جولة أخيرة
لم أكتفِ بالزيارة الأولي والثانية التي قمت بها فقررت النزول صباح اليوم التالي لأتعرف أكثر على قصص أشخاص آخرين وأقترب من معاناتهم التي لا يشعر بها أحد سواهم علّي أستطيع نقلها للرأي العام ومن يهمه الأمر، وأنا أتجول مركزاً على الناس وأحوالهم، لفتني انتشار الكثير من المشردين خلف جامعة صنعاء القديمة بكثرة وعند متنزه ميدان التحرير وغيرها من الأماكن، وحين كنت جالساً في أحد الأماكن العامة وعلى بعد أمتار قليلة لاحظت أحد الأشخاص وهو يقوم بجمع قوارير المياه الفارغة من القمامة ويضعها داخل كيس يحمله على ظهر، فتبين لي لاحقاً أنه يتخذ من هذا العمل مصدراً لرزقه.
وأنا في مكاني التفت يميناً ويساراً رأيت العديد من المشردين، بينهم شخص نائم تحت باب أحد المحلات التجارية، وآخر كان متكئاً في مكانه الخاص ويتحدث مع نفسه، فقررت التحرك إليهما والجلوس بجوارهما برغم نظرات الاستغراب التي يوجهها نحوي بعض المارّة.
أحدهما يدعى (عبدالله علي) كان متكئاً في مقيله، فاقتربت منه وبدأت أساله عن أسمه، وهدفي أن أعرف ظروفه الاجتماعية والمادية ومعاملة الناس له.
وكان بجانبي رجل عجوز يدعى محمد الوصابي، وكان نائماً تحت باب أحد المحلات وهو ملتحف ببطانية، حينها اقترب عامل النظافة وطلب منه أن ينام في مكان مظلل خلف السور بدلاً من النوم تحت أشعة الشمس الحارقة، لكن الرجل العجوز رفض أن يتحرك، وفجأة صاح (عبدالله) بوجه عامل النظافة وقال: “مالك خليه يرقد ما دخلك منه”.
• الجلوس على الأرصفة
ولان الوصابي “الرجل العجوز” كان نائماً فلم أستطع سؤاله عن احواله، فسألت صاحب أحد المتاجر المجاورة، عن حالة العجوز، فقال لي: “هذا الشخص ينام في اللوكندة المجاورة ولكنه يحب النوم تحت باب المحل، ولعله يحظى برعاية الناس فمنهم من يجلب له الطعام ومنهم من يرمي له ببطانية ولهذا يخرج أغلب المشردين ويجلسون على الأرصفة للسبب ذاته”.
وأنا أتحدث مع عامر الصنوي، صاحب المحل التجاري، رأيت الكثير من المشردين يمرون في هذا الشارع الذي بدا وكأنه مكان خاص لتجمعهم، وهناك وجدت شخصاً يدعى “بشير الجابري” والذي تبين أنه شخص متعلم وهو شاعر أيضاً، وحسب الصنوي، صاحب المحل التجاري، فإن هذا الشاب هرب من قريته بعد أن وجه مسدسه نحو والده أو أحد أقاربه، ويبدو أنه خاف من أن يتعرض للعقاب فهرب إلى العاصمة، وهو حالياً ينام في إحدى اللوكندات ويتخذ من ذلك الشارع مكاناً لتواجده طوال الوقت مع استغلال موهبته في الرسم والخط ليخط لبعض أصحاب المحلات التجارية بعض اللوحات والنقوش على الديكورات ويتقاضى لقاء ذلك أجراً مالياً يعيش به يومه.