ثلاثة أسباب رئيسية خلف الانهيار غير المفاجئ لأسعار النفط
ثلاثة أسباب رئيسية تقف خلف الازمة النفطية العالمية الحالية التي أدت الى انخفاض سعر البرميل لنفط تكساس الأمريكي الى 37 دولارا تحت الصفر، وبات المنتجين يدفعون للزبائن مقابل الشراء، اول هذه الأسباب الحرب النفطية السعودية الروسية مما أدى الى غمر الأسواق بملايين البراميل الإضافية الزائدة، الثاني، انخفاض الطلب العالمي على النفط بسبب حالة الاغلاق الاقتصادي لمنع انتشار وباء الكورونا، والثالث، انعدام إمكانيات التخزين، وباتت تكلفة التخزين في ناقلات عائمة اعلى من سعر النفط.
صحيح اننا نتحدث هنا عن ازمة التسليم لشهر أيار (مايو) التي انتهت الاثنين، وان الاتفاق الثلاثي الروسي الأمريكي السعودي يبدأ تطبيقه لشحنات شهر حزيران (يونيو)، التي ما زالت أسعار براميلها في حدود 20 دولارا، ولكن الصحيح أيضا انه لا توجد أي ضمانات بإنخفاض الأسعار الى اقل من عشرة دولارات، حيث وصل سعر برميل نفط تسليم شهر جزيران الى اقل من عشرين دولارا اليوم الثلاثاء الامر الذي يعني ان 533 شركة أمريكية ستعلن افلاسها، واذا انخفضت الأسعار الى 10 دولارات في الأشهر المقبلة فان حالات الإفلاس، ستتضاعف وتصل الى 1100 حالة.
***
الصورة تبدوا قاتمة جدا، اذا وضعنا في اعتبارنا تنبؤات صندوق النقد الدولي التي تتوقع ان يتراجع الطلب العالمي على النفط في حدود 29 مليون برميل يوميا، أي ما يقارب مجموع انتاج دول منظمة أوبك مجتمعة (حوالي 30 مليون برميل يوميا)، وحتى لو تم تطبيق الاتفاق الروسي السعودي، أي تخفيض 10 ملايين برميل، سيظل هناك فائض بحدود 19 مليون برميل، مما يعني ان انهيار أسعار النفط سيستمر في معظم الحالات.
كلفة استخراج النفط في المستقبل ستصبح اعلى من سعره، مما سيؤدي الى وقف الإنتاج طوعيا، وتسريح آلاف العمال، وافلاس مئات الشركات، وتفاقم العجز في ميزانيات معظم الدول العربية والخليجية، خاصة التي تشكل عوائد النفط ومعظم دخلها القومي وابرز هذه الدول السعودية والامارات وقطر والكويت، ولكن الأخيرة وضعها اقل حرجا بسبب عوائد صندوق الأجيال السيادي.
العجز في الميزانية السعودية اذا استمرت أسعار النفط تحت سعر 20 دولارا، سيصل الى 432 مليار ريال، أي اكثر من 40 بالمئة، وسيرتفع هذا العجز من 50 مليار دولار في ميزانية هذا العام الى فوق المئة مليار دولار على الأقل، وربما لهذا استدانت الحكومة السعودية 7 مليارات دولار بطرح سندات في السوق المحلي، وتسير الامارات على النهج نفسه، بينما اقترضت البحرين مليار دولار، وخفضت سلطنة عُمان انفاقها العام في حدود 1.5 مليار دولار.
دول الخليج، وفي ظل هذا الانهيار المبكر في أسعار النفط تواجه مستقبلا صعبا، لان منظمة أوبك التي كانت تتحكم في الأسعار عالميا انكمشت واختفت كليا ولم يعد لها ربع التأثير السابق، ولان الاستهلاك العالمي للنفط سيستمر في الانخفاض بشكل متسارع في ظل ازمة الكورونا، وانهيار قطاع السفر والطيران، وتزايد البدائل مثل الطاقة الشمسة، وطاقة الرياح، والطاقة النووية.
نعتقد ان صندوق النقد الدولي الذي تنبأ قبل اشهر بأن الاعتماد على النفط العالمي سينتهي عام 2034، وستواجه معظم دول الخليج الإفلاس، وستضطر للجوء الى الاقتراض، وفرض ضرائب عالية على مواطنيها لسد العجوزات في ميزانياتها، او تقليص الانفاق العام الى حدوده الدنيا، نعتقد هذه النبوءة الآن بحاجة الى تعديل، لان هذا التاريخ قد يكون قبل السقف المذكور، أي عام 2034، حيث من المتوقع ان تتغير عادات السفر ومعدلاته بعد ازمة الكورونا الحالية، وتتعرض شركات الطيران الى المزيد من حالات الإفلاس لتراجع السياحة، وتسريع استراتيجية شركات السيارات العالمية لإنتاج سيارات تسير بالطاقة الكهربائية.
الآثار النفسية للازمة النفطية العالمية الحالية على الدول المنتجة للنفط على درجة كبيرة من الخطورة، وقد تغير طبيعة حياة مواطنيها جذريا، مثلما قد تغير العقد الاجتماعي بين شعوب هذه الدول وحكامها بإنهيار الدولة الريعية، وزيادة مطالبات هذه الشعوب بالمشاركة في الحكم طالما انها تدفع ضرائب.
رغم التحفظات العديدة على سياسات بعض الحكومات الخليجية، وخاصة تدخلها عسكريا وماليا وسياسيا في بعض الدول مثل سورية وليبيا والعراق واليمن، الا ان شعوب هذه الدول تظل عربية شقيقة، تستحق كل الدعم والمساندة في مواجهة هذه الازمة، خاصة ان دونالد ترامب يستعد لعملية ابتزاز مالي جديدة لوح بها امس عندما اكد ان حكومته تدرس توقف شحنات النفط القادمة من السعودية، وقوله “عندما نقوم بحماية أصدقائنا فعليهم ان يدفعوا لنا، وليس علينا ان نحمي الشعوب بالمجان”.
***
صندوق النقد الدولي توقع انكماش اقتصاديات جميع الدول العربية باستثناء مصر، وانكماش اقتصاديات دول الخليج يعني فقدان الملايين من الغرب لوظائفهم، ويجب اخذ هذه المسألة في عين الاعتبار، فشعوب الدول الخليجية وقفت بقوة على جميع القضايا العربية، وقدمت دولها عشرات المليارات من الدولارات لدعم حكومات وشعوب عربية.
من المفارقة ان الدول المحاصرة أمريكيا، والممنوعة من تصدير النفط، مثل ايران وسورية واليمن، وبدرجة اقل ليبيا التي تواجه حربا أهلية، هي الأكثر تضررا من هذه الازمة النفطية، ونجحت في معظمها في التعايش مع ازمة الحصار بتطوير مصادر دخل بديلة غير نفطية.
ازمة كورونا وتفاعلاتها ستغير العالم، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على وجه الخصوص، وقد تعيد صياغة العلاقات والتحالفات بشكل جديد بعيدا عن التبعية لأمريكا التي قد تخسر عرشها عالميا، والتطبيع مع دولة الاحتلال.
في الختام نتمنى على معظم الحكومات الخليجية، ان لم يكن كلها، ان تستوعب هذه التغييرات بسرعة، وتغير الكثير من سياساتها الداخلية والخارجية في اقرب فرصة، داخليا بالمزيد من الحريات والتعايش وتفهم المطالب الشعبية، وخارجيا، بالعودة الى الحاضنة العربية الجامعة، وتعزيز العمل العربي المشترك على أسس جديدة بعيدا عن النظرات “الفوقية” القديمة، والعودة الى الثوابت العربية والإسلامية الأساسية، واولها مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لا مهادنته والتطبيع معه، ففي المرحلة المقبلة سيتساوى الجميع.. والله اعلم.