بعض إشكاليات الهوية والخصوصية (1- 4)
-
أحمد الحبيشي – وما يسطرون – المساء برس|
تُشكل التحديّات ــ على الدوام ــ اختباراً حقيقياً لموازين القوى والنخب الجديدة والقديمة التي تتولى زمام التغيير في أي مجتمع ، وتساعد في الوقت نفسه على استكشاف نقاط الضعف والخلل في بنية العلاقات المتبادلة بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات المختلفة .. وعليه فإن التفكير من منظور ” مواجهة الغزو الفكري، والدفاع عن الخصوصية الثقافية ” ربما يعكس شعوراً مرتبكاً بالقوة أو التعالي أو الخوف ، فيما يقود التفكير من منظور الإستجابة للتحديات الحضارية والتقاعل الإيجابي معها بدلاً من الإنعزال عنها، إلى نقد البنية الداخلية للثقافة السائدة ، وفرز عناصرها المتكلّـسة وغير القادرة على التجدّد، والعمل بعد ذلك على تطوير العناصر الفاعلة في بنية الثقافة بمنطق الإضافة والتجديد الابداعيين ، وصولاً إلى الاستجابة الحضارية للتحديات التي تفرضها فتوحات المعرفة ومنجزات العلم والتكنولوجيا , ومتغيرات الزمان والمكان ، وتحوّلات الحضارة في احد منعطفات التاريخ.
لاريب في أن التحديات تُشكل ــ بطبيعتها ــ فعلَ استثارةٍ ، وإشارة تنبيه إلى ضرورة اليقظة في لحظة ما ، قد تكون حاسمة . ومن جانبها لا تكتمل اليقظة بدون معرفة طبيعة التحدي وقوته ومصادره ووجهة سيره ، وصولا الى استنفار القدرات الكامنة في المجتمع الذي يواجه هذا التحدي ، وفحصها والتاكد من صلاحيتها ، وقياس درجة قوتها ومدى إستعدادها للتعامل مع اية تحديات محتملة .
والحال ان الهدف المحوري لمجمل هذه العمليات التي تقع في منطقة وسط ، بين الفعل وردود الفعل ، هو اختيار درجة وقدرة مفاعيل هذه العمليات على الاستجابة للتحديات الحضارية ، وإعادة تأهيلها إن كانت غير متوازنة مع قوة واندفاع التحديات المماثلة امامها .. بمعنى إعادة اكتشاف الذات ونقدها وغربلتها وتجديدها .
الإحتكاك والتثاقف
بطريقة لاتخلو من الخِـفـّة والتبسيط ، يقترح بعض الذين كتبوا حول مخاطر العولمة على الهوية والثقافة بعض الحلول لمعالجة إشكاليات التعاطي مع هذه المخاطر المفترضة ، بيد أن تلك الحلول تُكرّس ــ في نهاية المطاف ــ مخرجات ثقافة الاستبداد الشمولية التي نشأت على تربة فقه التشدد ووجدت في بيئة الحروب الدينية التوسعيّة وحروب الإستعمار والغزو والعدوان والحروب البـــاردة ، مفاعيل إضافية.
كان التفكير بواسطة تلك الثقافة يُسوَّغُ للسياسة والآيديولوجيا إقامة ستار حديدي حول المجتمعات ، وفرض سيطرة صارمة ومطلقة على العقل والدين والحرية من خلال وسائل الإعلام والثقافة ومناهج التربية والتعليم ، بهدف تشكيل وتعليب الوعي الاجتماعي للناس في تلك المجتمعات ، إنطلاقاً من منظور ثقافوي يصادر حرية الاختيار، ويحرّم التعددية ويمارس الوصاية على الحقيقة باسم خصوصية تاريخية أو دينية أو آيديولوجية أو قومية!!
ولئن كانت العولمة تُفسح مجالاً أوسع لإنفتاح متبادل بين الشعوب والمجتمعات والأفراد والجماعات في مختلف الحقول الاقتصادية والثقافية والإعلامية والإنسانية، فهي تخلق أيضاً إشكالياتها التي تولد من رحم مفاعيلها الجديدة .. فهل يؤدي هذا الانفتاح إلى انكشاف وتعرية الحقول الأضعف ، مقابل سيطرة أحاديـــــــــــــة ــ نسبية أو مطلقة ــ للحقول الأقوى .. أم يؤدي إلى بناء الدولة الحديثة وتعميق التعددية الثقافية والحضارية ، وتوطيد أسسها في المجتمع البشري والبيئة الوطنية والعالمية؟
بوسعنا القول أن ما يترتب على العلاقات بين الثقافات من إشكاليات ليس أمراً جديداً، لان علم الانتروبولوجيا توصّل منذ فترة ــ ليست قصيرة ــ إلى صياغة مفاهيم معرفية تساعد على فهم آليّات الاحتكاك بين الثقافات، واكتشاف أنساق التفاعل فيما بينها ، ومن هذه المفاهيم ما يـُسمّى بالتثاقف.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن الإنجاز الأبرز لثورة تكنولوجيا الاتصالات وتقنية المعلومات هو حدوث إندماج عضوي بين الفضاء الطبيعي والفضاء الألكتروني ، أسفر عن ضغط الزمان والمكان وتقريب المسافات بينهما ، وإزالة الحواجز الطبيعية والسياسية بين جغرافيا الأسواق وديموغرافيا المجتمعات وسوسيولوجيا الثقافات.
في هذا السياق يتوقف الحضور الإبداعي للثقافات في العالم الجديد على وجود استراتيجيات فاعلة للنهوض بالثقافات وتنشيط مفاعيلها في المجتمعات الضعيفة ، على نحو ينتقل بها من النطاق الضيق لثقافات الهويّة ، إلى الفضاء الواسع لثقافات المشاركة .
لعلّ ذلك يستوجب تطوُّر الوعي بطبيعة المشكلات القائمة ، والخروج من نفق وعي المشكلات القديمة التي أفرزها عصر الاستعمار والسيطرة الكولينيالية ، بما هي مشكلات تتعلق بالغزو الفكري والاستلاب الثقافـي ، وما يرتبط بهما من دفاع عن الهويّة ، وتمسُّك بالخصوصية الثقافية في إطار النزوع إلى السيادة والاستقلال.
تختلف إشكاليات الهوية الثقافية في عصر العولمة عنها في عصر الكفاح ضد الاستعمار والنزوع إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الحديثة أو الدولة الأمة .. فيما ترتبط إشكاليات الهويّة التي تفرزها تحديّات العولمة وثورة الاتصالات وتقنية المعلومات بفضاء طبيعي والكتروني تتفاعل فيه ــ على نحو غير مسبوق ــ مفاعيل اقتصادية وثقافية وسياسية وإعلامية وإنسانية وأخلاقية ، في عالم مـترابط ومتكامل ، بصرف النظر عن تناقضاته وإختلالاته التي يستحيل معالجتها بالإنعزال عن هذا الفضاء الإنساني الواسع والمتنوع ، بل بالاندماج فيه والمشاركة في تعديل شروط توازناته ، وإعادة صياغة مفاعيله الداخلية وبنيته التراتبية .
في هذا الفضاء المفتوح لم يَعُد بمقدور أي جماعة بشرية أن تعيش بشكل مستقل وبوعي مستقل وبممارسة تاريخية مستقلة، خارج سيرورة الحضارة الإنسانية المعاصرة ، وبمعزل عن إمتلاك شروطها المعرفية وفواعلها المادية.
بالقدر ذاته يتطلب الإلتحاق بالعصر والاندماج في حضارته الحديثة فواعل وموارد بشرية وثقافية ومعرفية نشطة ومتجددة . وبدون ذلك لا يمكن فهم ومعالجة الإشكاليات الحقيقية للهوية والخصوصية المفترضتين ، وفي مقدمتها إشكاليات التقليل من خطر التماهي مع الثقافة السلفية التي تنزع إلى الإقامة الدائمة خارج العصر، وتتمسك بثقافات ضعيفة وعاجزة عن الاستمرار والتجدد .
ثقافات وهويّات سادت ثم بادت
يقيناً أن الثقافات والخصوصيات والهويّات ليست حتميات مثالية وثوابت مطلقة ، بمعنى أنها ليست عناصر ثابتة عبر التاريخ . لأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه وهويته وعاداته وتقاليده في بيئات اقتصادية وثقافية وحضرية وبدوية مختلفة في المجتمع الواحد ،عبر سيرورة حضارية متجددة وغير ثابتة .. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت هنالك ثقافات وحضارات وهويّات سادت ثم بادت عبر التاريخ ، رغم أن أطلالها وآثارها الباقية تشهدان على أنها كانت قوية ومتألقة في زمانها ومكانها..، غير أن تحوّلها الى آثار ماضوية تاريخية ، يعد دليلاً أكيداً على عجزها عن التجدد والإستمرارية ، وفشلها في الإستجابة لتحديات حضارية واجهتها في منعطفات حاسمة من تاريخ تطور المجتمع البشري.
يُعلمنا تاريخ الحضارات ــ بما فيها الحضارة العربية الإسلامية ــ أنه لا توجد ثقافة مستقلة كلياً عن الثقافات الإنسانية الأخرى ، لأن الثقافات محكومة بآليات وأنساق التفاعل والتثاقف والتلاقح المحلي والخارجي حتى وأن كان ذلك يتحقق بنسب متفاوته.
وما من شك في أن التفاوت الذي نقصده ، محكومٌ هو الأخر بقدرة كل ثقافة على التجدد والإستجابة لتحديات التحول في أزمنة الانعطافات التاريخية الكبرى ، أي بقدرتها على إبداع حلول معاصرة للمشاكل الجديدة التي تبرز وتستجد في مجرى تطور مجتمعاتها ، بدلاً من النزوع إلى الإنعزال والإقامة الدائمة في الماضي ، والمحافظة على البنى المتكلّسة للثقافة الموروثة ، والإفراط في الوهم بامكانية إعادة انتاج حلول ماضوية لإشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية معاصرة ، أوالاستنساخ الأعمى لحلول جاهزة ابدعتها ثقافات أخرى في عصور وأزمنة سالفة .
اللافت للنظر أن الذين يُحذّرون بصوت عالٍ من خطر العولمة الصناعية والتجارية على الهوية والخصوصية الثقافية ، لا يحدّدون طبيعة المخاطر ولايحلّلون محتواها بدقة ، ولا يجتهدون في مقاربة وتفكيك ونقد إشكاليات الهوية والخصوصية ، والتعرّف على وجهة كل منهما باعتبارهما أهدافاً لهذه الاخطار المفترضة التي يتحدثون عنها بقلق شديد!!.
إن التحليل الدقيق للخطر المفترض ، والتوصيف الدقيق للهدف الذي يسعى إليه هذا الخطر ، ضائعان تماماً في عموم المناقشات والتناولات التي أشرنا إليها سابقاً .. ولعل ذلك يعود إلى هروب نمط التفكير المألوف في حياتنا الثقافية التقليدية من النقد الموضوعي للثقافة العصرية والثقافة الموروثة ، والذي سيفرض علينا بالضرورة نقداً موازياً لثقافة الهوية والخصوصية .. فبدون ممارسة النقد وتعظيم دوره الوظيفي لن نستطيع بلورة موقف سلبي أوايجابي من ” خطر ثقافي ” مُفترَض تحمله إلينا رياح التغيير في هذا العصر ، ولن نستطيع أيضاً التمييز فيما إذا كان هذا الخطر يهدد احتياجات النهوض الحضاري للقوى الجديدة والنامية في المجتمع ، أم يهدد مصالح البنى التقليدية للمجتمع و ونزوعها الى المحافظة على ثقافتها المتكلسة والمهيمنة ؟.
بدون هذا النقد لا نستطيع تعيين سبل وأشكال الدفاع عن خصوصيّة وهويّة مفترضتين، ومعرفة ما تنطوي عليه البيئة الثقافية لهذه الهوية والخصوصية من قابلية للانكشاف أمام التحديات الحضارية ، أو قدرة على الاستجابة لها .
(يتبع الحلقة القادمة)
-
المصدر: من حائط الكاتب على حسابه بالفيس بوك نقلاً عن صحيفة “الثورة”