وقفة مع ما قاله البردوني عن الغزو والإستعمار
ألف معركة ومعركة :
اليمني مقاوم عنيد وصلب شرس وضارٍ لا يعرف الهزيمة وإن عرفها يوماً فهي ليست إلا انتكاسة وكبوة سرعان ما ينهض منها ويتجاوزها ، ولهذا ظلت الأجيال اليمنية تصارع قوى الغزو دون كلل أو ملل نعم لم تحقق النصر من أول معركة بل خاضت صراعاً مريراً يعبر عن مدى الارتباط بالهوية والأرض والتاريخ ، ذلك التاريخ الذي يخبرنا بأن معظم المناطق اليمنية شهدت معارك ووقعات ومواجهات واشتباكات وثورات وانتفاضات ونادراً ما تجد اسم قبيلة أو منطقة أو قرية أو مدينة لا يتوارث أهلها قصة بطولة أو حكاية تضحية.
لقد كانت حركة التحرر يمنية الوجه والروح واليد والسلاح وألمع مزايا هذه الحركة أنها جاءت من دوافع يمنية وقاتلت بالسلاح اليمني وبالزند اليمني ، إنها اليمنية الخالصة كما يقول البردوني عن حركة الاستقلال من الاحتلال التركي الثاني في بلد دائم التحرك ودائم الصراع، تمادت الحيوية وامتدت لأن الهدوء لم يمسح معالم الجرأة من النفسية اليمنية فتلاحقت التفجرات من جيل إلى جيل ،فاليمن صرع بأيدي بنيه كل قائد غزو إما على تربته وإما خارج حدوده إذا نجا من المعركة.
إنه التاريخ المليء بالأحداث بالصبر والمعاناة بالنجاح والانتصار بالتقدم والتراجع بالمحاولة والاجتهاد بالمثابرة والإيمان بالعزيمة والإخلاص بالخيانة والعمالة بالشجاعة والبأس والتضحية ، فقد سطر اليمنيون منذ فجر التاريخ اسم بلدهم على أنها مقبرة الغزاة وهكذا تتحدث الكتابات الكلاسيكية الرومانية ،وفي هذا يقول المؤرخ الإرياني «اشتهرت الأمة اليمنية بين الأمم القديمة أنها الأمة التي لم يدنس أرضها قدم فاتح ولا حنت عنقها لنير الاستعمار ولم تكسف في يوم من الأيام على مر التاريخ شمس حريتها بل تحطمت عنجهيتها على صفاة إبائها وارتدت على أبوابها حاسرة ذليلة» ويقول المؤرخ الشماحي اليمن التي لم تفرغ من نفسها الإباء لأي طاغية ، ولا فتحت أحضانها لأي غازٍ إلا ليُقبر هو وأحلامه تحت سنابك إبائها ثم ليكون لغيرة عظة وعبره.
وهكذا أثبتت أحداث الحملات الأكسومية ونتائجها والأيوبية وتداعياتها وهكذا أكدت حملات المماليك والبرتغال ومن بعدهم الأتراك الذي قالوا أن اليمن كانت بالفعل مقبرة لهم ،كيف لا وقد قاتلهم اليمنيون بالأحجار والأسنان والأخشاب والسيوف والمقاليع والعصي والهروات بل وحتى بالأيادي وبنفس الأدوات تصدى أبناء اليمن للبرتغال والمماليك الذين جاؤوا بالسلاح الناري ،فكانت الملاحم العظيمة تسطرها دماء الشهداء في الشحر وزبيد وعدن و الأرض قاتلت الغزاة من سقطرى حتى صعدة والمخلاف السليماني ونجران والجوف ومأرب ومن كمران وسط البحر الأحمر إلى المهرة وظفار ومن لم يقرأ التاريخ فعليه أن يتصفح ولو جزءاً منه ليطالع صفحات النضال وفصول المجد وأبواب العزة في سفر التضحية اليمانية المجيدة ولم يتراجع شعبنا اليمني يوماً عن مواجهة الغازي بل كان هذا الشعب محرضاً للقوى الوطنية وللقادة والزعماء في مختلف المراحل التاريخية على الخروج والثورة دفاعاً عن السيادة والاستقلال ، وهو ذات الشعب الذي يسقط الشرعية عن أي منظومة حاكمة تقرر الخضوع والاستسلام بل قد يتجه إلى مواجهتها قبل مواجهة الغازي نفسه وإلى إسقاطها قبل أن يعيد ترتيب نفسه ويستعد لحرب التحرير الشاملة ، وهو نفس الشعب الذي يشترط على الحاكم ضرورة مواجهة الغازي للحصول على الثقة ولكسب الشرعية وحب الجماهير فهذا الشعب بمختلف شرائحه سطر مواقف تاريخية لا تُنسى ،فحين يتقاعس الحكام ينهض ويتأهب وعندما يتراجع الرأس يقف شامخاً لا يركع ولا ينحني ، وعندما يأتي الغزو أو يحدث الاحتلال تصبح الشرعية المحلية مشروطة بالمواجهة فلا شرعية في ظل احتلال ولا احتلال يمنح أي قوة الشرعية ؛كونها لا تُمنح إلا من الشعب الذي أكد الموقف وعمَّد الرؤية ورسَّخ المفهوم وقدَّم الحل الذي يتناسب مع الواقع اليمني ،فيحفظ المجد القديم بإحيائه حاضراً واستحضاره مستقبلاً ، ومن ذلك المنطلق لم نسمع في التاريخ أن هناك شرعية استدعت احتلالاً أو أن هناك احتلالاً خلق شرعية لأنها باستدعاء الخارج تفقد مشروعيتها وتسقط شرعيتها ولأن الاحتلال عندما يحاول خلق شرعية إنما يكون يمنح ما لا يملك لمن لا يستحق .
في اليمن قاتلت الجبال مع الجبال ؛جبال الأرض وجبال البشر ومن الجبال إلى السهول والأدوية والهضاب والسواحل والجزر حكايتنا تطول وتاريخنا لا يمكن اختصاره في عشرات الصفحات أو المئات فما وقع في أيدينا إلا القليل وما وصل إلينا ليس إلى الجزء اليسير من قصة ألف معركة ومعركة.
كتاب تاريخ اليمن مقبرة الغزاة – عبدالله بن عامر